وبمناسبة إشارتنا لميرلو-بونتي، يوضح إيه جيه آير ببراعة الهوة التي تفصل فلاسفة التقليد التحليلي عن فلاسفة التقليد القاري، من خلال الذكرى التالية التي وردت في سيرته الذاتية:
ربما كان من المتوقع أن نجد أنا وميرلو-بونتي أرضية مشتركة للنقاش. ولقد حاولنا فعل ذلك حقا في عدة مناسبات، ولكن لم نمض كثيرا قبل أن نبدأ في النزاع حول نقطة ما لم يكن أي منا على استعداد للتنازل عنها. وبما أن هذه المناقشات تميل إلى أن تكون حادة، اتفقنا ضمنيا على إيقافها واللقاء على مستوى اجتماعي خالص، وهو الأمر الذي ترك لنا مادة كافية للحديث عنها.
يشبه هذا قليلا الصراخ عبر الهوة التي تحدث عنها دوميت وأشرنا إليها سابقا. ثمة مثال آخر، يشمل آير أيضا، أكثر إثارة للاهتمام، وحتى غير محتمل قليلا؛ ويتعلق هذا المثال باجتماع بين آير وربما المفكر الأكثر تطرفا من بين أتباع الفلسفة القارية جورج باطاي، الذي كان معارضا للفلسفة التقليدية، والمعرفة، والفكر الديني، وشبقيا. فقد التقيا في حانة باريسية في عام 1951، مع ميرلو- بونتي. ويبدو أن المناقشة استمرت حتى الثالثة صباحا، وكانت الأطروحة قيد المناقشة بسيطة جدا: هل وجدت الشمس قبل وجود البشر؟ لم يجد آير أي سبب للشك في وجود الشمس قبل البشر، في حين اعتقد باطاي أن الفكرة برمتها لا معنى لها. بالنسبة إلى فيلسوف مؤمن بوجهة النظر العلمية حيال العالم مثل آير؛ فمن المنطقي قول إن الأشياء المادية مثل الشمس موجودة قبل تطور البشر. في حين أنه بالنسبة إلى باطاي - الأكثر دراية بالفنومينولوجيا - يجب أن تدرك الأشياء المادية من منظور ذات إنسانية من أجل أن يقال إنها موجودة. ونظرا لعدم وجود البشر في الوقت المفترض في الفكرة، فمن ثم لا معنى للادعاء بأن الشمس كانت موجودة قبل البشر. ويخلص باطاي إلى ما يلي:
أود أن أقول إن محادثة الأمس كان لها تأثير الصدمة؛ إذ يوجد بين الفلاسفة الفرنسيين والإنجليز نوع من الهوة التي لا نجدها بين الفلاسفة الفرنسيين والألمان.
من أجل رؤية مثال كاشف على التحامل الذي ما زالت تعامل به الفلسفة القارية، يمكن للمرء أن يأخذ كدراسة حالة مقالتين كتبهما اللورد أنتوني كوينتن حول الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية، ونشرتا على التوالي في كتاب «أكسفورد كومبانيون تو فيلوسوفي» مؤخرا في عام 1995. تعد مقالة كوينتن حول الفلسفة التحليلية ملخصا منصفا لمفهومي الذرية المنطقية والوضعية المنطقية، على الرغم من أنها وجيزة جدا لدرجة تمنعها من أن تكون مفيدة حول التطورات التي حدثت فيما بعد الحرب في هذا المجال. ويختتمها بالإشارة إلى الفيلسوفين التحليليين هيلاري بوتنام وروبرت نوزيك بقوله: «هما يفكران ويكتبان بروح تحليلية، تحترم العلم، باعتباره نموذجا للمعتقدات المعقولة، وبما يتفق مع صرامته الجدلية ووضوحه وتصميمه على أن يكون موضوعيا.» ومع ذلك، فإن نفس هذا التصميم على الموضوعية ليس واضحا في مقالة كوينتن حول الفلسفة القارية. تبدأ المقالة - على نحو معقول بما فيه الكفاية - بإشارة كوينتن الصحيحة إلى كيفية ارتباط المعنى الحالي بالفلسفة القارية حديثا في بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وتعرض أيضا ملاحظات مفيدة حول وحدة المسعى الفلسفي، الذي اتسمت به العصور الوسطى اللاتينية وعصر النهضة، وهو حوار لم يمثل إشكالية على نحو باهر بين الفلاسفة من بريطانيا وأوروبا القارية، امتد لفترة طويلة حتى وصل إلى عصر التنوير؛ حيث كان لوك قارئا لأعمال ديكارت وجاسندي ومالبرانش، وكان هيوم قارئا لأعمال بايل وعرف روسو، ودرس مل أعمال كونت، إلى آخره. الأمور حتى الآن جيدة جدا ، ولكن يدعي كوينتن أنه «لا يوجد حقا أي تقارب ملحوظ بين عالمي الفلسفتين»، ولكي يثبت وجهة نظره (عن غير قصد، بالطبع)، يقدم ملخصات صادمة جدا للوجودية والبنيوية والنظرية النقدية؛ فالأولى مرفوضة، من دون إشارة كافية إلى الفنومينولوجيا، وذلك لاعتمادها «على الأسلوب الدرامي، وحتى الميلودرامي، بدلا من الحجج العقلانية المثبتة». ويقال إن الثانية قد «بلغت ذروتها مع فوكو، وأنها تجاوزت نفسها، وانطلقت إلى فضاء فكري خارجي مع دريدا». أما الثالثة، فرفضت بنحو غريب على النحو التالي: «أبطلت النوايا السياسية الواضحة لمنظري النظرية النقدية أي اهتمام من جانب الفلاسفة التحليليين الملتزمين بالحياد.» إذا كان يمكن أن يقال إن مثل هذه التعليقات تظهر التزاما بالحياد، فضلا عن الفضائل المذكورة أعلاه المتمثلة في الصرامة الجدلية والوضوح والتصميم على أن يكون موضوعيا، فربما يكون اعتقاد كوينتن بأنه لا يوجد أي تقارب ممكن بين عالمي الفلسفتين مبررا على نحو جيد. ولا داعي للقول إن مثل هذه الملاحظات ليست خاطئة فحسب، ولكنها - كما أرى - متعصبة فكريا، وتعمل ببساطة على استمرار الأفكار النمطية الثقافية الضارة. (2) الفلسفة القارية: وصف ذاتي أكاديمي وسمة ثقافية
إذن، كيف نفسر هذه الهوة بين الفلسفتين القارية والتحليلية وفلاسفتهما؟ تثير صفة «قارية» - على الأقل بالنسبة إلى القارئ البريطاني - ارتباطات بالاستخدامات الأخرى لها، مثل الإفطار القاري أو ما كانت والدتي تدعوه «لحاف قاري»؛ وهذا يعني أنه مصطلح جغرافي أو «اسم مكاني» يشير إلى شيء يحدث في مكان معين، وهو أوروبا القارية. والصفة تكشف عن تمييز بين القاري وما هو غير قاري؛ أي تمييز، من وجهة نظر البريطاني، غالبا ما يخاطر بتوطيد اختلاف بين البريطاني والقاري؛ حيث يعرف هذا الأخير على أنه أجنبي وغريب ودخيل، ويعرف الأول على أنه غير أجنبي ووطني ومألوف. على هذا النحو، فإن مفهوم «قاري» يشير إلى المسائل التي تبدو مستعصية على الحل ومزعجة إلى حد ما، والخاصة بالجغرافيا السياسية، والتي تتمثل تحديدا فيما إذا كانت بريطانيا هي المنفصلة عن أوروبا القارية أم العكس (تذكر العنوان الرئيسي السيئ السمعة الذي ظهر بإحدى الصحف : «ضباب على القناة الإنجليزية، وانعزال عن أوروبا القارية»).
شكل 3-1: لوحة لبيتر بول روبنس (1577-1640)، بعنوان «الفلاسفة الأربعة».
أرغب الآن في تقديم ادعاءين حول المعنى التاريخي للفلسفة القارية؛ أولهما هو أنه «وصف ذاتي أكاديمي» على نحو أساسي؛ أي إنه وسيلة ينظم بها الفلاسفة وأقسام الفلسفة أبحاثهم ومحاضراتهم، ويشيرون من خلالها لانتماءاتهم الفكرية. وبهذا المعنى، الفلسفة القارية هي سمة لإضفاء الطابع الأكاديمي على الفلسفة. وبهذا المعنى المحدد، مفهوم الفلسفة القارية هو مفهوم حديث. وعلى الرغم من عدم وجود إجماع بشأن الأصل الدقيق لمفهوم الفلسفة القارية كوصف ذاتي أكاديمي، فإنه لم يظهر كتوصيف للدورات الدراسية الجامعية وتلك الخاصة بالدراسات العليا في الفلسفة قبل سبعينيات القرن العشرين. ومن الواضح أن هذا حدث في الولايات المتحدة الأمريكية قبل بريطانيا؛ حيث قدمت أول دورات دراسية في مرحلة الدراسات العليا في الفلسفة القارية في جامعة إسكس وجامعة وريك في أوائل ثمانينيات القرن العشرين. في السياق الأمريكي، وإلى حد أقل في بريطانيا، حل مصطلح «الفلسفة القارية» محل المصطلحات الأقدم «الفنومينولوجيا» أو «الفنومينولوجيا والفلسفة الوجودية». وحفظت هذه المصطلحات في أسماء الجمعيات الأكاديمية المرتبطة على نحو وثيق بالفلسفة القارية في العالم الناطق بالإنجليزية؛ «جمعية الفنومينولوجيا والفلسفة الوجودية» التي تأسست في عام 1962، و«الجمعية البريطانية للفنومينولوجيا» التي تأسست في عام 1967. إذن، يبدو أنه في فترة ما بعد الحرب كانت الفلسفة القارية مرادفة على نطاق واسع للفنومينولوجيا (في رداء وجودي في كثير من الأحيان)، وهي الحقيقة التي تنعكس أيضا من خلال بعض عناوين الكتب الأمريكية التقديمية من ستينيات القرن العشرين: «دعوة للفنومينولوجيا» (1965)، و«الفنومينولوجيا في أمريكا» (1967). وربما يدلل على ذلك أن العنوان الأخير خضع لمحاكاة وتغيير في عام 1983 بظهور كتاب آخر حول نفس الموضوع ولكن بعنوان «الفلسفة القارية في أمريكا». والسبب في أن حل مصطلح «الفلسفة القارية» محل مصطلح «الفنومينولوجيا» ليس واضحا تماما، ولكن يبدو أنه قدم للأخذ في الاعتبار الحركات الفكرية الفرنكوفونية ما بعد البنيوية العديدة، التي كانت مختلفة على نحو كبير عن الفنومينولوجيا وغالبا ما كانت معارضة لها؛ إلى حد أقل في أعمال جاك لاكان ودريدا وجان فرانسوا ليوتار، وإلى حد أكبر في أعمال جيل دولوز وميشيل فوكو.
ويمكن ملاحظة هذا التقسيم الموجود في الواقع بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية في ظواهر ثانوية فلسفية متنوعة، مثل توصيف الوظائف الذي يطلب «متخصصين في الفلسفة القارية»، وقوائم أعمال الناشرين التي تخصص عادة في الجزء الأخير منها صفحات خاصة للفلسفة القارية. وكما يؤكد جون سيرل برضى، توجد هيمنة أكاديمية شبه كاملة للفلسفة التحليلية في العالم الناطق بالإنجليزية؛ حيث تشعر أنواع الفلسفة غير التحليلية - مثل الفنومينولوجيا - بأنه من الضروري تحديد موقفها فيما يتعلق بهذه الهيمنة. ومع ذلك، على الرغم من هذه الهيمنة التي لا شك فيها، توجد جامعات في المملكة المتحدة وأيرلندا وكندا وأستراليا تتخصص في الفلسفة القارية، وغيرها الكثير في الولايات المتحدة الأمريكية، معظمها من الجامعات الكاثوليكية، مع وجود بعض الاستثناءات البارزة. في أقسام وكليات الفلسفة، حيث تكون الفلسفة التحليلية هي المهيمنة، غالبا ما توجد دورة دراسية أو ورقة بحثية حول «الفلسفة الأوروبية الحديثة»، أو «فلسفة ما بعد كانط»، أو «الفنومينولوجيا والوجودية»، وهي الدورات التي كثيرا ما تبدأ استجابة لرغبة الطلاب، والتي عادة ما تكون كبيرة جدا في هذا المجال. وأيضا، يمكن القول إن تأثير الفلسفة القارية في العالم الناطق بالإنجليزية، ولا سيما في نسخها الفرنكوفونية الأحدث، أقوى بكثير خارج أقسام الفلسفة من داخلها؛ حيث إنها أثرت على نحو حاسم في العديد من الابتكارات النظرية في العلوم الإنسانية والاجتماعية: في النظرية الأدبية، والتاريخ، والنظرية الفنية، والنظرية السياسية والاجتماعية، والدراسات الثقافية، وعلم التأريخ، والدراسات الدينية، والأنثروبولوجيا، فضلا عن المناقشات في مجالات الفنون الجميلة والهندسة المعمارية والنسوية، والتحليل النفسي. وعموما، يتم الترحيب بأفكار الفلسفة القارية في العالم الناطق بالإنجليزية - على نحو معبر وملحوظ - خارج أقسام الفلسفة.
ومع ذلك، إذا كانت هذه هي نهاية القصة، فإن المناقشات حول الفلسفة القارية ستكون ذات أهمية عامة قليلة، مثل الخلافات الأكاديمية الأخرى في العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية. ولشرح الانفعال الشديد المستمر الذي يسود النزاعات المحيطة بالفلسفة القارية التي ظهرت في رفض كوينتن وصدمة باطاي، فإنه لا بد من تقديم ادعاء ثان؛ وهذا الادعاء بالتحديد هو أن مفهوم الفلسفة القارية كوصف ذاتي أكاديمي أكثر إثارة للخلاف والإزعاج؛ لأنه يحجب معنى «ثقافيا» أقدم، ويعود إلى الجدل حول علاقة بريطانيا والعالم الناطق بالإنجليزية بأوروبا القارية، وهو الجدل المتقد بشدة في السياسة البريطانية المعاصرة على سبيل المثال. وبهذا المعنى، فإن المسائل المتعلقة بتحديد هوية تقليد فلسفي ما، تصبح واقعة على نحو خطير في شرك التحيزات الأيديولوجية للجغرافيا السياسية الظاهرة في مفاهيم غامضة ومضللة، مثل: «التجريبية البريطانية»، و«العقلانية الفرنسية»، و«الميتافيزيقا الألمانية»، وما إلى ذلك. (3) حالة جون ستيوارت مل المثيرة للاهتمام
صفحة غير معروفة