الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)

فؤاد زكريا ت. 1431 هجري
84

الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)

تصانيف

impression » عند هيوم - أي إنها تبدأ بمعرفة ما هو حاضر أو موجود مباشرة في الوعي - فكل معرفة تبدأ بالإدراك المباشر وتعود إليه في النهاية. وكون الشيء مدركا يعني بالضبط كون الشيء ضمن محتوى الوعي، والإدراك هو الفعل المعرفي الذي يوجه إلى ذلك المحتوى الحاضر مباشرة على الدوام، وهو يشترك مع جميع الأفعال المعرفية الأخرى في صفة التأكيد

assertion ، أي تأكيد أن الحاضر «موجود». وإمكانية الخطأ مستبعدة تماما فيما يتعلق بهذا المعطى الأول للمعرفة، فما نكون على وعي مباشر به، أي الواقعة الحاضرة المعطاة، تظل واقعة حقيقية حتى لو اتضح عندما ينظر إليها من مستوى معرفي أعلى أنها وهم. فالإدراك لا يبت بشيء فيما يتعلق بمركز الواقعة الموجودة، وإنما يؤكد أنها حاضرة في الوعي فحسب. غير أن هذا المعطى الأولي، الذي هو من حيث المبدأ بمنأى عن الخطأ، لديه منذ البداية قيمة معرفية خاصة، من حيث إنه هو الأساس الذي تفترضه مقدما جميع المعطيات الأخرى، والمعيار الذي تقاس عليه، فالإدراك هو محكمة النقض والإبرام في المسائل المتعلقة بصحة حقيقة جميع الأنواع الأخرى للمعرفة.

ومن الواضح أن الإدراك، من حيث صفة كونه مغيارا للحقيقة، يناظر تماما «الانطباع» عند هيوم، الذي تنحصر وظيفته في تبرير وإثبات صحة الأفكار بوصفها محتويات للوعي ليست هي ذاتها «حاضرة». وهكذا فإن مبدأ هيوم الأساسي، القائل إن الأفكار تثبت صحتها انطباعات مناظرة لها هو نفسه الكامن من وراء نظرية المعرفة عند هبهوس، بل ومن وراء فلسفته بأكملها بمعنى آخر، بقدر ما يكون من سماتها الأساسية اشتراط تحقيق كل حدس فلسفي بواسطة الوقائع التجريبية الكامنة من ورائها، وتلك هي الصفة المميزة لتجريبية هبهوس، وهي تجريبية تفترق أساسا عن المذاهب التجريبية الإنجليزية الكلاسيكية، في أن لها أساسا أوسع بكثير في التجربة، يتمشى مع التقدم الذي حققته العلوم ومع تراكم المواد المعرفية.

وسرعان ما تتحول التجريبية عند هبهوس، كما تحولت عند لوك، إلى اتجاه واقعي، وبذلك وجدت نفسها معارضة لكانت وجميع النظريات المثالية، فمحتويات المعرفة تعطى على أنها منتمية إلى العالم الواقعي، وكل ما يتعين على الفكر أن يفعله هو أن يعترف بهذه المحتويات، أي أن يكشفها أو يميط اللثام عنها، لا أن يبنيها، ومعنى ذلك أنه ليس ثمة معرفة «أولية

apriori » وإنما المعرفة «بعدية

aposteriori » فحسب؛ ولذلك لا يمكن أن تكون مادة المعرفة هي تلك الكثرة المختلطة التي قال بها كانت، والتي يتعين تطبيق المقولات الذهنية وصور التركيب عليها، ولا هي الفكرة البسيطة عند لوك، التي هي محتوى كيفي صرف، بل إن كل معطى - حتى ما يبدو منه بسيطا - مركب من البداية، أي إنه يضم، إلى جانب الكيف، مجموعة من العلاقات والترتيبات، كالامتداد والمقدار والشكل والوضع بل والاتجاه. وفي هذه النقطة يفترق هبهوس عن أساتذته التجريبيين، فالأفكار البسيطة عند لوك أو الانطباعات غير المترابطة عند هيوم لا يمكن أن تكون في رأيه محتويات للمعرفة، وإنما هذه الإحساسات المفككة لا تعدو أن تكون تجريدات فكرية، لا يناظرها شيء حقيقي، ففي أبسط إدراك مباشر، يدرك الذهن كلا معقدا أو واقعة عينية، تنطوي على ترتيب زماني ومكاني، وعلى علاقات أخرى متعددة بالإضافة إلى الكيف وحده. ولا شك أن تخلي هبهوس على هذا النحو عن مذهب الانطباعات المفككة عند هيوم، عن طريق القول بأن المعطى كل مركب، يربط بينه وبين مفكرين مختلفين عنه، ومختلفين فيما بينهم كل الاختلاف مثل «جرين» وهدجسون

Hodgson ، ويخلي الطريق لتدفق عناصر مثالية معينة في نسق التفكير التجريبي والواقعي.

ويستطيع الذهن إلى جانب تلقيه للمحتوى الحالي للمعرفة عن طريق الإدراك المباشر، أن يمارس عددا من الوظائف الأخرى على المعطيات، كالحفظ

Retention (بواسطة الذاكرة) والتحليل والتأليف والاستدلال والتعميم إلخ. وهناك أهمية خاصة لعملية الحكم، التي يحللها هبهوس تحليلا دقيقا، فما الفارق بينها وبين الإدراك المباشر الخالص؟ إن الحكم «هذا أزرق.» يتألف من ثلاثة عناصر : المعطى الحاضر («هذا»)، ومضمون كلي («أزرق»)، والرابطة

35

صفحة غير معروفة