5
وأبحاث لا مارك ودارون في علم الحياة.
غير أن هذا الوصف لكل عملية في الكون بأنها تنويع تدريجي ينتقل به ما هو بسيط نسبيا إلى ما هو مركب نسبيا، كان في نظر سبنسر ناقصا، معبرا عن وجه واحد من أوجه المشكلة، فقد رأى لزاما عليه أن ينظر إلى هذه الحركة التي تسير في اتجاه واحد على أنها تعوض بميل مساو لها يسير في الاتجاه المضاد. فالتنويع (أو التفاضل) يعوضه التكامل، والتفرق تعوضه الوحدة، والتقدم يعوضه التأخر أو الانحلال، بحيث تكون مهمة الاتجاه الثاني هي إفساد عمل الاتجاه الأول، ويكون فعلهما معا متبادلا، بحيث يكمل كل منهما الآخر ويعمقه. وليست العملية الأولى، والأهم، هي عملية التخصص، وإنما هي عملية التكامل ورفع الفوارق إلى وحدات أو كلات أعلى، ومع ذلك فلكل اتجاه في التقدم حد أعلى، وحالة توازن، هي نقطة بداية القوى المضادة التي تؤدي إلى حدوث الانحلال، وعلى ذلك فإن أعم قانون للتطور، في صورته الكاملة، إنما هو هذا الإيقاع الأزلي للتقدم والانحلال، وهو عملية توحيدية متصلة ذات وجهين متعارضين ومتقابلين.
ولقد كانت الصيغة الكونية عند سبنسر، كما عرضناها حتى الآن، متحررة من أية مسلمات ميتافيزيقية، ولا تبدأ هذه المسلمات في الظهور إلا في التعميم النهائي القائل إن إيقاع الكون والفساد إنما ينحصر هو ذاته في توزيع المادة والحركة وإعادة توزيعهما، وهنا يكون التطور - من وجهة النظر النهائية هذه - تكاملا للمادة مصحوبا بتنوع وانتشار للحركة من جهة، وامتصاصا أو استهلاكا للحركة مصحوبا بتحلل للمادة من جهة أخرى. ولما كان المجموع الكلي للمادة والحركة ثابتا، فإن كل هذا التغير، وكل تغير على الإطلاق، لا يمكن أن يكون سوى تجميع وتقسيم، وإعادة تجميع وإعادة تقسيم، بدرجات متفاوتة، للمادة والحركة في المكان، يحدث وفقا لقوانين آلية بحتة. وعلى ذلك فإن الكون عند سبنسر، سواء بوصفه كلا ومن حيث أجزائه، إنما هو آلة هائلة يتحكم قانون العلية في كل عملياتها، وتسري قوانين المادة والقوة والحركة على كل الظواهر، أي إنها تسري على الحياة الاجتماعية والعقلية للإنسان مثلما تسري على العالم غير العضوي، ولم تكن مهمة سبنسر في «فلسفته التركيبية» سوى إثبات ذلك.
وقد خلص سبنسر هذا المذهب الآلي من المادية الصريحة بإدخال فكرته المشهورة، فكرة «اللامعروف
Unknowable »
6
التي تتيح منفذا، وصماما - إن جاز هذا التعبير - في مذهبه الذي لولاهما لكان مقفلا تماما. ونظرا إلى أنه قد عرضها في بداية مذهبه، أي في كتاب «المبادئ الأولى»، فقد عدت في كثير من الأحيان أساسا لمذهبه، ولكنها ليست في الواقع إلا تزيينا للواجهة، قصد منه إعطاء البناء مظهرا يقلل من نفور العقول المتدينة منه. وفضلا عن ذلك فقد كانت تلك الفكرة مقتبسة، ولم تكن أصيلة لديه، وهي ترتكز على الحجج الإبستمولوجية المشهورة المتعلقة بحدود قدراتنا في المعرفة ، فنحن لا نستطيع أن نعرف إلا النسبي والمشروط والظاهري، ولكن نفس معرفتنا بذلك تلزمنا - بحكم ضرورة عقلية - بأن نفترض «مطلقا» متضايفا، وحتى لو كنا نعجز عن التغلغل فيه أبعد من ذلك، فلسنا نملك أن نتجنب افتراض وجوده. ويضع سبنسر هذه ال «س» الهائلة في اعتباره فيسميها باللامعروف، ولكنه ينتقل، على نحو يفتقر إلى الاتساق، إلى طريقة في التفكير أقرب إلى الميتافيزيقيا منها إلى نظرية المعرفة، يجعل فيها الكم المجهول وصفا محددا إلى حد بعيد، فيذهب إلى أن علينا أن ننظر إلى العالم الذي تصل إليه تجربتنا وكل ما يحدث فيه من تغيرات على أنه تكشف لقوة تظل ثابتة وسط التغيرات، وتكون لا متناهية في المكان والزمان. وبهذه الحجة، التي هي قطعا أكثر اتساقا مع أسس مذهب سبنسر من الحجة الإبستمولوجية السابقة، يفقد «اللامعروف» - دون شك - قدرا كبيرا من عدم قابليته لأن يعرف. وهكذا فإن الفكرة التي اعتقد الكثيرون أنها هي الفكرة الرئيسية في فلسفة سبنسر تنطوي في ذاتها على تناقض داخلي، وهي فكرة يفتقر بناؤها تماما إلى الإحكام.
ومن الواضح أن مصدر فكرة اللامعروف هو كانت، غير أن سبنسر لم يقتبسها منه مباشرة، وإنما بتوسط هاملتن ومانسل، اللذين أدخلا عليها تعديلا عميقا، وكان كل ما فعله هو أنه ترجمها إلى لغته وطريقته الخاصة في التعبير. غير أن النزعة الظاهرية
التي كانت كامنة من وراء مذهبه، والتي لم يقل بها سبنسر صراحة وإنما افترضها ضمنا، كانت عنصرا مشتركا في طريقة التفكير التجريبية من باركلي إلى مل، أي إنها كانت جزءا لا يتجزأ من ذلك التراث الذي نمت فيه حياته العقلية. وأخيرا فإن من الواضح أن وصفه للمطلق بأنه قوة ثابتة من خلال جميع تغيرات الحوادث الظاهرية هو نقل لقانون بقاء الطاقة إلى مجال الميتافيزيقا.
صفحة غير معروفة