صحيح أن هبز ولوك وهيوم هم الذين وضعوا الأسس، ولكن مل كان أول من رفع البناء، فأخضع هذا المجال بجميع أطرافه لتنظيم دقيق، وكان - باستثناء بيكن - أول من جعل من الأسس المنطقية للعلوم الدقيقة موضوعا للبحث، ولقد أحدث فتحا جديدا في تاريخ المنطق، ليس فقط بفضل الأساس المنهجي الجديد لهذه الدراسة، بل أيضا بفضل الاتساع الهائل الذي أدخله على مجالها؛ ومن هنا كانت كل الاتجاهات المنطقية التالية، بالقدر الذي تخلت به عن تراث أرسطو أو لم تسر به في الطريق المثالي الميتافيزيقي أو الطريق الرياضي، مدينة له بفضل ما، بل إنه قد دفع بالمذاهب التقليدية والمثالية إلى التفكير من جديد في أساس منهجها، وبفضل مل أصبحت للاتجاه النفساني في المنطق المكانة العليا طوال سنوات عديدة، ولم تنته سيطرته إلا بعد أبحاث هوسرل الحاسمة قرب نهاية القرن التاسع عشر. فكل الأبحاث في الأوجه النظرية والمنهجية للعلم تتخذ نقطة بدايتها من مل قبل غيره، ومهما افترقت عنه فيما بعد، فإنها مدينة له ببدايتها الأولى، فقد كشف مل أرضا جديدة أضافها بأكملها إلى إطار العلم المنطقي، وذلك في فكرته الخاصة بمنهج تكوين التصورات العلمية ومنهج البحث الدقيق عامة، ولقد كان بحثه في منطق العلوم الطبيعية، الذي عرضه في الفصول الأساسية المتعلقة بالاستقراء، هو أفضل بحث منهجي في هذا الميدان، إذا ما قورن بجميع المحاولات السابقة من نوعه، هذا فضلا عن تلك المحاولة الأولى لتكوين منطق للعلوم الذهنية، وهي المحاولة التي أضافها إلى ما سبق، صحيح أنه لم يتمكن - حتى ذلك الحين - من إدراك الفروق الرئيسية بين منهجي العلوم الطبيعية والعلوم الذهنية، وأنه أيد بحماسة زائدة ادعاء العلوم الطبيعية أنها هي التي تحتل المكانة العليا، غير أنه أدرك أن ثمة مشكلة منطقية هامة ها هنا، وكان من أوائل من أدرجوا في مجال المنطق مجموعة من العلوم التي كاد المناطقة الآخرون يتجاهلونها تماما. هذه حقائق ينبغي ألا ينساها المناطقة المتأخرون والكتاب في مناهج العلوم الذهنية؛ إذ إن الكثيرين منهم لا يعترفون اليوم إلا نادرا بقيمة جهود مل، وقد حاول مل أن يحل هذه المشكلة بالنظر إلى طريقة العلم الذهني على أنها موازية بدقة لطريقة العلم الطبيعي، وبهذه الموازاة وحدها أعتقد أن من الممكن جعل الدراسات الذهنية علمية بالمعنى الدقيق، ويمكن القول بوجه عام: إن كتاب مل في «المنطق» (الذي ظهر أولا في مجلدين، في سنة 1843، بعنوان «مذهب في المنطق، النظري والاستقرائي»
A system of Logic, Ratiocinative and Inductive
هو أدق وأشمل تطبيق لمبادئ المذهب التجريبي في بريطانيا، وفيه طرد مل «الأولية
apriorism » من آخر وأقوى معاقلها، ولم يتوان عن استخلاص أجرأ النتائج. وهكذا سار شوطا أبعد بكثير من كل السابقين عليه، حتى في هيوم ذاته، إذ لم يجرؤ هؤلاء على مهاجمة المنطق في هذا الموضع أو ذاك، وكانوا يخشون التدخل في مجالات معينة ثبت أركانها تراث دام قرونا عديدة، أما مل فقد اكتسح كل شيء، وأوضح أن البديهيات المنطقية والقضايا الرياضية ذاتها ليست إلا استقراءات من التجربة، «فنحن لا نرى ما يدعو إلى الاعتقاد بإمكان وجود أي موضوع لمعرفتنا، سواء أكان تجربتنا أو ما يمكن أن يستخلص من تجربتنا بالتمثيل، أو بوجود أية فكرة أو شعور أو قوة في الذهن البشري، تحتاج لتبريرها ولظهورها إلى أن ترد إلى أي شيء عدا تجربتنا.» هذه النغمة الرئيسية تتردد وكأنها إيقاع أساسي من بداية كتاب «المنطق» إلى نهايته.
كذلك يحاول مل - في ميدان نظرية المعرفة - أن يعرض وجهة النظر التجريبية النفسية في طابعها المنطقي الخالص، وأهم مؤلفاته التي قدم فيها هذا العرض بطريقة شاملة هو كتابه الفلسفي الثاني «اختبار لفلسفة السير وليام هاملتن
Examination of Sir William Hamilton’s Philosophy » (1865). ويعد هذا الكتاب المؤلف الرئيسي للتجريبية الحديثة في نظرية المعرفة، مثلما كان كتاب «التحليل» لجيمس مل مؤلفها الرئيسي في علم النفس، وهنا تصل قدرة مل على العرض الواضح الطليق، والمجادلة العملية النقدية إلى أقصى درجات تطورها، غير أن مذهبه في المعرفة أقل في أهميته الفلسفية بكثير من مذهبه في المنطق؛ فهو لم يكتشف هنا أرضا جديدة، وإنما حقلا زرعه من جديد، وسبق أن استغله استغلالا كاملا ممثلو التجريبية الكلاسيكيون، الذين انتفع مل نفسه من أبحاثهم، وهكذا فإن الطابع الغالب عليه في هذا الميدان هو العودة إلى الأفكار القديمة لباركلي وهيوم، وعلى الرغم من أنه توصل إلى بعض الصيغ الجديدة، فإنه لم يضف إلى المعرفة إضافة حقيقية، وتتلخص وجهة نظره في القول بصيغة محددة بدقة للمذهب الظاهري
، الذي كانت أهم تعاليمه هي تلك المتعلقة بطبيعة المادة والذهن، وهو يتوصل إلى حل لمشكلة العالم الخارجي (أو المادة) خلال محاولته تجنب المذهب الحسي الساذج
crude sensationalism ، وذلك في صيغته المشهورة: «الإمكانات الدائمة للإحساس»، فمفتاح المشكلة لا يبدو لديه في الإحساسات التي هي ماثلة مباشرة للوعي، والتي هي في تغير دائم وتفتقر إلى كل دوام وثبات، وإنما في توقعنا، في ظروف معينة، إمكان ظهور إحساسات معينة، وفي كون هذه الإحساسات الممكنة تتصف بالثبات والدوام، غير أنه لم يدرك أن تصوري «الإمكان» و«الدوام» يفترضان مقدما تنظيما موضوعيا للأشياء، وأنه بذلك يتخلى عن المذهب الحسي بمعناه الدقيق؛ إذ إن هذا المذهب الأخير يرد كل وجود حقيقي إلى الأحاسيس وارتباطاتها، وهو يعالج مشكلة الذهن أو الأنا على نفس النحو، فهو يتفق تماما مع نظرية «الحزمة»
bundle-theory
عند هيوم؛ إذ يعرف الذهن بأنه سلسلة أحاسيسنا كما تتبدى فعلا في الوعي، والزيادة الوحيدة التي يدخلها على هذه النظرية هي إضافته إلى الأحاسيس الماثلة مباشرة تلك الإمكانات اللامتناهية للإحساس والانفعال، التي يكفي توافر شروط معينة لكي تظهر مباشرة، وهذه الشروط قائمة دائما بوصفها إمكانات، سواء أحدثت بالفعل أم لم تحدث، ومع ذلك فإنه يدرك تلك الحقيقة الفريدة، وهي أن حزمة الأحاسيس هذه واعية بذاتها من حيث هي ماض أو مستقبل، بحيث يكون علينا إما أن ننظر إلى الأنا على أنه شيء يختلف من حيث المبدأ عن سلسلة الأحاسيس أو إمكانات الإحساس، أو أن نقبل الموقف الغريب الذي يوجد فيه شيء هو، حسب تعريفه، مجرد سلسلة من الأحاسيس، ويكون في الوقت ذاته واعيا بذاته بوصفه سلسلة. ولم يستطع مل أن يتخلص من هذا المأزق، ولا أن يقرر مراجعة «نظرية الحزمة» بحيث يجعلها أقرب إلى أن تكون مذهبا للأنا بوصفه مبدأ روحيا للوحدة، فهو يكتفي بملاحظة هذه الحقيقة الغامضة، ويرفض القيام بأية محاولة لتفسيرها. وعلى أية حال فإن توقفه الفجائي إزاء هذه المشكلة وغيرها يدل على أنه قد اضطر في أحوال كثيرة إلى أن يغمض عينيه بقسوة عن الضوء الوضاح لبصيرته النفاذة؛ حتى يظل مخلصا للمذهب التقليدي لمدرسته. وعلى الرغم من أن ثقته بهذا المذهب قد قلت بالتدريج، فإنه لم يجهر صراحة بخروجه على هذا التراث لا في هذه المسألة ولا في غيرها من المسائل.
صفحة غير معروفة