وهو يعرض الأساس الفلسفي لتطور التعاليم المسيحية في حجة تتعلق قبل كل شيء بتطور الأفكار بوجه عام. وبهذا تنقل المشكلة منذ البداية إلى الميدان الذهني، وفي هذه الواقعة نفسها نجد فارقا أساسيا بين نظرة نيومان وبين نظرات المذاهب الطبيعية (naturalistic)
التالية، فالأمر في حالة التركيبات الذهنية أو الأفكار مماثل له في حالة الأشياء الجسمية المدركة حسيا ، فالشيء لا يكشف في البداية إلا عن هذا الوجه أو ذاك من جوهره، تبعا للاتجاه الذي ينظر إليه منه، ويتمثل لنا في هياكل وتخطيطات متعددة تتزايد تجمعا لتكون «وجها كليا» للشيء، تبعا لمقدار دقة الملاحظة وطولها. وكذلك الحال في الفكرة، فهي تقاس تبعا للكل الذي تكونه أوجهها الممكنة، وهي الأوجه التي قد تتباين كثيرا تبعا للأفراد الذين يدركونها، وترتبط قوة الفكرة وعمقها ارتباطا محددا بكثرة الأوجه التي تتمثل عليها وتنوعها، وليس ثمة وجه يبلغ من العمق حدا يجعله يستوعب كل محتوى فكرة عينية، كما لا يوجد أي تعبير لغوي قادر على تعريفها بأكمل معانيها. غير أن كل هذه الأوجه المتباينة يمكن أن ترتبط بالفكرة بوصفها نقطة تلاقيها المشتركة، وأن تندمج فيها، ومهما بدا من تباينها وتنوعها في الوهلة الأولى، فإننا كلما أمعنا النظر فيها وأطلنا تأملها، وجدناها تزيد من تأكيد حقيقة الفكرة التي تنتمي إليها، ومن تكاملها وأصالتها وقوتها. ويطلق نيومان اسم التطور الذهني للفكرة على هذه العملية التي يحدث خلالها - سواء طالت أم قصرت - تبلور داخلي للخطوط العامة للفكرة، بحيث تقترب من معناها الأساسي، ولكنا نستطيع أن نشبه هذه العملية بالمجرى الذي يكون أصفى ما يكون قرب منبعه. ولكن الفكرة، على العكس من ذلك، تزداد نقاء وخصبا كلما ازداد حوض المجرى الذي استمدت منه امتلاء وعمقا. وهذه الاستعارة توحي بأن البدايات التاريخية لأية فكرة لا يمكن أن تتخذ مقياسا لقيمتها وأهميتها، بل إنها تزداد اكتمالا كلما حققت نفسها خلال الزمان بمزيد من العمق، ورغم أنها تظل بمعنى معين نفس الفكرة خلال تحولاتها، فإنها في دورتها النهائية تكون أقرب إلى الاكتمال مما هي في مظهرها الأول أو في أية مرحلة وسطى.
وهكذا فإن مركز الثقل في هذا العرض للتطور التاريخي يقع، على النقيض تماما من وجهة النظر الطبيعية
naturalistic ، في المراحل المتأخرة للعملية لا في مراحلها الأولى، وفي نهايتها لا في بدايتها، فمعنى أية فكرة (وهو ما يقصد به دائما تركيب عيني أو قوة حية للذهن تكون لها رسالة تاريخية تحققها ) لا يعبر عنه - عند بداية ظهور الفكرة على المسرح - بنفس القوة والفعالية التي يعبر بها عنه في عصور الحضارة الأرقى والأكثر نضوجا. ولا يرجع ذلك إلى الفكرة ذاتها بقدر ما يرجع إلى طبيعة إدراك الذهن البشري لها - وهو إدراك يكون دائما ناقصا غير مطابق للحقيقة الكاملة للفكرة - ولا يمكن الكشف عن جميع الأوجه المتضمنة فيها، بكل ما فيها من ثراء إلا بعملية نمو وتقدم تدريجية؛ ولذا فإن الزمان عامل ضروري في نمو الفكرة، أو لتمكن من يتلقونها من فهمها والتيقن منها، والأمران سيان. ولا تتحقق عملية الاستيضاح هذه إلا خلال تاريخها، وهي تتحقق بدرجات متزايدة بقدر ما يزداد نضوج وعمق الطريقة التي يفهمها بها أولئك الذين تمر بهم هذه الفكرة. وعلى ذلك فمن الواجب التمييز بين فهم الذهن العارف للفكرة أو تحقيقه لها، وبين الفكرة ذاتها، فالأول يمر بعدة تحولات ويخضع للتطور، أما الثاني فيكون على ما هو عليه من البداية، وطوال هذه المراحل كلها. وإذا كانت حقيقتها تزداد بالتدريج تكشفا خلال تاريخها، فما ذلك إلا لأنها كانت منذ البداية متضمنة في داخلها، فتاريخها وماهيتها ينتميان أساسا كل منهما إلى الآخر، وما الأوجه المختلفة التي تتكشف فيها، والتي يؤلف مركبها صورتها النهائية، ما هي إلا مجرد «لحظات» أو انبثاقات لما هو منتم إليها في الأساس، وهي لا تضاف إليها من الخارج، وإنما تنمو من داخلها نموا عضويا. وبعبارة أخرى، فالفكرة تظل محتفظة بطبيعتها الأساسية مع تغير أوجهها المختلفة، ومهما تغير تمثلها الخارجي أو تطور، فإنها هي ذاتها تظل دون تغير، وهكذا يتضح أن التطور
development
بالمعنى الذي استخدمه نيومان يختلف من حيث المبدأ عن المعنى «التطوري
evolutionary » الذي تنطوي عليه الكلمة في المذهب الطبيعي
Naturalism ، فلا شأن له بعمليات التغير الآلية العلية في عالم المادة، ولا بالنمو البيولوجي وتكوين الكائنات العضوية عن طريق سلسلة دائما الارتفاع من المستويات التي تزداد على الدوام تفاضلا (differentiation) ، وإنما هو يعني بالفعل شيئا ذهنيا أو روحيا خالصا، ويعني تحقيق ماهية الأفكار خلال مجرى تاريخها، وتكشف هذه الماهية في الفهم المتزايد للذهن المدرك، كلما برز تارة هذا الوجه، وتارة أخرى ذاك الوجه من أوجه المعنى الكامن الواحد.
ومن السهل الآن أن نقوم بتطبيق هذه الأفكار على تاريخ الديانة المسيحية والكنيسة المسيحية، وهو الأمر الذي كان الموضوع الأول لاهتمام نيومان؛ فالمذهب المسيحي إنما هو فكرة كهذه، مرت عبر القرون بتعديلات متعددة، كانت فيها تكشف عن ماهيتها على نحو يزداد على الدوام ثراء وعمقا وامتلاء، وهذه التعديلات ليست مجرد تغييرات عشوائية مفككة متعاقبة طرأت على المذهب كما أوحي به في الأصل، بل إن تاريخ العقيدة يدل، على العكس من ذلك، على أن كل شيء قد سار ها هنا بأكبر قدر من الانتظام، وفي اتجاه واحد تحدده الفكرة ذاتها مقدما. فالفكرة المسيحية قد نمت عضويا، وهي قد مرت بعملية أصيلة من التطور (
dev. )، من بدايتها حتى يومنا هذا، دون أن يتأثر بذلك معناها الأساسي. وقد ظلت على الدوام تكشف عن صور وجوانب جديدة من وجودها لفهم البشرية النامي والمتزايد عمقا، بحيث لم يزدها ذلك هزالا وضعفا، وإنما زادها نضوجا واكتمالا وفعالية. ولقد استطاعت أن تجاري التقدم العام للمدنية حتى أعلى مستويات العقل والثقافة، واكتسبت مزيدا من الرسوخ والامتلاء ومن القوة والوضوح على قدر ما كانت تصل إليه المدنية من سمو؛ ذلك لأن من أوضح مظاهر ثراء المسيحية الذي لا ينفد، أن محتوى فكرتها لا يمكن أن يدرك كله دفعة واحدة أو على نحو نهائي، وإنما ينبغي أن يكون الزمان (بمعنى «المدة
صفحة غير معروفة