نظرة أوسع إلى المثالية : سوف تتكون لدينا صورة أوضح للمادية، الماضية منها والحاضرة، إذا نظرنا إليها على أنها المذهب الذي يرى أن الواقع في هوية مع العالم الفيزيائي، بدلا من أن ننظر إليها على أنها مذهب مبني على المادة. والواقع أن هناك مزايا واضحة للأخذ بهذا التفسير للمادية. فهو أولا يوفر علينا أي جدل فني متخصص حول طبيعة المادة. وهو ثانيا رأي يمكن أن يظل صامدا لكل التغيرات التي تطرأ على الفهم العلمي «المادة». وهو ثالثا يؤدي بنا إلى وضع التأكيد في الموضع الذي يضعه فيه المادي ذاته؛ أعني في العالم الطبيعي في مقابل أي نوع من العالم فوق الطبيعي. فإذا نظرنا إلى المادية على هذا الأساس، لاتضح لنا أنها هي اللب الأنطولوجي لنظرة إلى العالم أوسع منها بكثير، هي المذهب الطبيعي. وعلى هذا النحو تتضح لنا علاقة الواحدية المادية بميدان الفلسفة بأسره، ونعود مرة أخرى إلى مواجهة القطبين الميتافيزيقيين اللذين طالما واجهناهما من قبل، وأعني بهما المذهبين المثالي، والطبيعي.
الآراء المادية في الذهن : من الواضح أنه، أيا كان المذهب الذي نختاره من بين المذاهب الواحدية الكبرى، فلا بد لنا أن نواجه على الفور مشكلة كبرى: هي كيفية تفسير الوجه المضاد في تجربتنا من خلال المذهب الذي اخترناه. وهكذا فإن المادية تواجه أشق اختبار لها عندما تحاول تفسير الذهن أو الوعي من خلال العالم الفيزيائي، على حين أن النقطة التي يرجح أن الواحدية الروحية تنهار عندها هي تلك التي تحاول فيها استخلاص العالم الفيزيائي من الذهن أو الروح. وعلى ذلك فإن المهمة التي تواجهنا الآن هي أن نبين كيف تفسر المادية وجود الذهن في الكون.
إن هناك طرقا ثلاثا لتحديد العلاقة بين الذهن والمادة في إطار المذهب المادي، ولهذه الطرق أهمية تاريخية؛ ففي استطاعتنا أولا أن ننظر إلى الذهن على أنه مجرد صفة
Attribute
للعالم المادي، تربطه به العلاقة المعتادة التي تربط بين الصفة وجوهرها. ونستطيع ثانيا أن ننظر إلى الذهن على أنه نتيجة (أو معلول) للمادة، بحيث إن اللفظ المستخدم للتعبير عن هذا الرأي، وهو «المادية العلية »، يوضح العلاقة بين عالمي الذهن والمادية. وأخيرا توجد «مادية توحيدية
Equative Materialism » ترى أن النشاط الذهني في حقيقته ذو طبيعة مادية.
5
ومن الواضح أن هذا الأخير هو أكثر المواقف الواحدية تشددا من بين المواقف الثلاثة الممكنة؛ لأنه يحاول تأكيد أن الذهني إنما هو ذاته المادي. أما «المادية الصفاتية
Attributive » فتكاد تكون أغمض من أن تلقي ضوءا على الموضوع؛ لأن العلاقة بين الجوهر وصفاته علاقة يصعب تعريفها. وأما الموقف الثاني أو العلي، فهو الموقف الذي يفضله علم النفس الحديث على غيره. وهذا ما ينبغي أن نتوقعه؛ لأن علم النفس، شأنه شأن أي علم آخر، يحرص أساسا على تنظيم ظواهر داخل إطار من القوانين العلية.
الموقف المعاصر : يمكننا أن نصف العلاقة بين العامل الفيزيائي والعامل الذهني، في ضوء موقف المادية المعاصرة، على النحو الآتي: فالذهن أو الوعي يعتمد على حركة المادة؛ أي على العنصر المادي المؤلف من المخ والجهاز العصبي المركزي، أو بعبارة أدق، فهو يعتمد على الحركة في داخل المادة؛ إذ إن العمليات الذهنية تعد نوعا من الطاقة العصبية، يرتبط بتغيرات الطاقة داخل الجهاز العصبي كله. ويحاول البعض أحيانا التوحيد تماما بين العمليات الذهنية والعصبية، كما رأينا من قبل في الفصل المتعلق بالذهن. وهذه «المادية التوحيدية» ترى أن العملية الذهنية أو الحادث الذهني في الوعي ليس إلا تغيرا عصبيا - وهو موقف يختلف عن الموقف الأقل تطرفا للمادية العلية التي نحن بصدد وصفها والتي ترى أن العنصر الذهني نتيجة لتغيرات الطاقة في الجهاز العصبي أو معتمد عليها. والواقع أن وجهة النظر التوحيدية المتطرفة سرعان ما تصادف صعوبات، وذلك في نظر معظم الفلاسفة على الأقل؛ ذلك لأنه، رغم أن من الأمور التي لا يكاد يتطرق إليها شك أن الوعي يستقر في المخ، ويرتبط بالتغيرات العصبية التي تحدث فيه، فإن أي توحيد بين الاثنين هو أمر يتنافى مع الفكر واللغة. فالقول إن الوعي هو ذاته «الحركة» أو «الطاقة» هو إما استخدام لهذين اللفظين في غير معناهما المقبولين، وإما قول لا يعني شيئا على الإطلاق.
صفحة غير معروفة