أدى عدم الاكتفاء بنظرية التأثير المتبادل وبنظرية التوازي معا إلى وضع مجموعة من الآراء التي يمكن أن تعد كلها احتجاجات على هاتين النظريتين. ويتصف أحد هذه المواقف المحتجة بأنه ثنائي بدوره، غير أن معظم الآراء المعارضة تحاول الوصول إلى حل واحدي لمشكلة الذهن والجسم.
أما الحل الثنائي البديل فهو مذهب الظاهرة الثانوية
Epiphenomenalism
هذه النظرية، رغم ما يبدو على اسمها من تعقيد، بسيطة نسبيا، وهي تحظى بقبول غير قليل في الوقت الحالي. ولقد صيغت في الأصل على أنها رأي مادي في الذهن، وكانت لها على هذا الأساس شعبية كبيرة بين أنصار المادية في القرن التاسع عشر، بل إن دعاتها اليوم لا يأتون إلا من معسكر المذهب الطبيعي الآلي، وذلك لأسباب ستتضح بمجرد أن نشرح النظرية. وتقول هذه النظرية، بالاختصار، إن العلاقة بين الذهن والجسم علاقة سببية غير أن هذه ليست سببية متبادلة، كما هي الحال في مذهب التأثير المتبادل. فالتأثير يسير في اتجاه واحد فحسب؛ إذ إن التغيرات الجسمية تؤدي إلى حدوث تغيرات ذهنية، لا العكس. فليس النشاط النفسي إلا نتاجا ثانويا، والعملية الأساسية ذات طابع فيزيائي بحت. وهكذا يصبح الذهن مجرد ظاهرة مصاحبة أو ظل للنشاط الجسمي، لا تأثير لها فيه. وكما يعبر برجسون عن هذا الرأي، فإن الذهن يغدو تبعا له مجرد هالة تتراقص فوق عمليات المخ. وهناك تشبيه أشهر من ذلك، هو التشبيه بظل تلقيه عجرة دائرة. فليس للظل تأثير على العجلة أو على حركتها، ولكنه هو ذاته معتمد تماما عليها في وجوده وفي طابعه. وهكذا يصف سانتيانا الذهن في عبارة رائعة بأنه «صيحة غنائية في زحمة العمل». فالشيء الأساسي والهام بحق هو النشاط الجسمي. أما الوعي المصاحب له فلا يمثل إلا زخرفا غير وظيفي لهذا النشاط. ويضيف صاحب هذا المذهب قائلا إننا، مثلما نتأثر في كثير من الأحيان بالمظهر الخلاب أو الزخرف أكثر مما نتأثر بالشيء الأساسي، فإننا هنا أيضا نتجه إلى أن نجد في هذه «الصيحة الغنائية» شيئا أهم بكثير مما يسمح لنا به الحكم الموضوعي الرزين على الأمور.
مذهب الظاهرة الثانوية والعلم : كانت أقوى مزايا هذه النظرية شبه الثنائية؛ أعني نظرية الظاهرة الثانوية، هي تأثيرها المثمر في علم النفس وعلم وظائف الأعضاء معا. فهي قد شجعت دعاتها على البحث عن تفسيرات جسمية خالصة للظواهر الذهنية، وقد أمكن القيام بكثير من الأعمال التجريبية المفيدة على قياس هذا الفرض. بل فرض الظاهرة المصاحبة هذا كانت له من النتائج المثمرة بوصفه منهجا، مما يجعل المرء مترددا في مهاجمته، وإن كان من الواجب أن نتذكر أن نجاحه بوصفه فرضا منهجيا لا يثبت كفايته من حيث هو موقف ميتافيزيقي شامل. فمن الملاحظ مثلا أن الحجة التطورية التي سقناها ضد مذهب التوازي، يمكن أن تساق بنفس القوة ضد النظرية الحالية. فإذا كان ما يساعد الكائن العضوي في الكفاح للحصول على وسائل العيش وفي استمرار النوع هو وحده الذي يقدر له البقاء في الصراع من أجل الوجود، وإذا كان الذهن أو الوعي مجرد «صيحة غنائية» وسط هذا الصراع، فكيف أتيح له إذن أن يستمر في الوجود ويزداد أهمية في حياة الإنسان؟ وهكذا نستطيع أن نختتم كلامنا عن مذهب الظاهرة الثانوية بتقديم حكم موجز عليها، فنقول إن نتائجها قد أثبتت قيمتها بوصفها فرضا عمليا ينطوي على منهج للبحث العلمي، أما من حيث هي نظرة شاملة إلى الذهن، فإن قيمتها تقل عن ذلك إلى حد ما. (8) آراء اسبينوزا وليبنتس
تمثل نظرية الظاهرة الثانوية التي عرضناها الآن مذهبا ثنائيا يتحول بالنسبة إلى جميع الأغراض العملية، إلى واحدية منهجية. أما النظرية التي يتعين علينا بحثها بعد ذلك، فتمثل واحدا من الموقفين اللذين يقولان بالواحدية. ولقد كان الهدف من اتخاذ كل من هذين الموقفين هو محاولة تجنب الصعوبات التي تبدو حتمية لا مفر منها في أي حل ثنائي لمشكلة الذهن والجسم. ومع ذلك، فإن الحل الذي تقدمه إحدى هاتين النظريتين يبدو مصطنعا، شأنه شأن الحل الذي تأتي به نظرية التوازي. هذه النظرية هي نظرية الوجهين
Double-Aspect Theory ، التي ارتبطت بوجه خاص باسم اسبينوزا، وهي تذهب باختصار إلى أن الذهن والجسم ليسا إلا وجهين متقابلين لحقيقة نهائية واحدة تكمن من ورائهما. فهما أشبه بجانبي الورقة، أو إذا شئنا تشبيها أفضل لقلنا إنهما أشبه بالوجهين المقعر والمحدب لعدسة زجاجية. وبعبارة أخرى فإن تسميتنا للحادث بأنه «جسمي» أو «ذهني» تتوقف على الوجه الذي نلاحظه منه؛ أي على العلاقات التي ننظر إليه من خلالها - مثلما أن حكمنا بأن العدسة ينبغي أن توصف بأنها مقعرة أو محدبة يتوقف على العلاقات التي ننظر إليها من خلالها.
الاعتراضات على نظرية الوجهين : على الرغم من أن المدافع عن هذا الفرض القائل إن الذهن والجسم ليسا إلا صفتين توأمين لجوهر نهائي واحد يستطيع أن يتجنب الانتقادات الموجهة إلى مذهب التوازي، فإنه يقع في صعوبات خاصة به. فلما كان يرى الذهن والمادة حقيقة واحدة، فإنه لا يحتاج إلى الإتيان بتفسير مسرف في الخيال كذلك الذي التجأ إليه لبينتس. ومع ذلك يتعين عليه أن يحاول إقناع الموقف الطبيعي، الذي ينظر إلى المسألة عادة على النحو الآتي: أن تشبيه القوسين المحدب والمقعر تشبيه دقيق جدا. ولكنه لا يكاد يكون تفسيرا للحقيقة القائلة إن تجربتنا بأسرها تشتمل على مجالين مختلفين تماما من مجالات الوجود. ففي استطاعتنا أن نسميها شيئا واحدا، ولكن من الواضح أننا لا نستطيع أن نثبت أنهما شيء واحد. وفضلا عن ذلك، فمن الممكن الاعتراض بأن هذا التوحيد بين المجالين لا يكاد يكون تفسيرا على الإطلاق. فهو يحاول أن يتخطى مشكلة الذهن والجسم بأسرها عن طريق إنكار وجودها: ولو كان الاثنان في أساسهما شيئا واحدا فحسب، لما كانت هناك أية صعوبة في موضوع الصلة بينهما.
وكثيرا ما تشعر الأذهان المعاصرة بأن نظرية الوجهين هذه تقف موقفا يائسا، بطريقتها الواحدية، مثلما أن نظرية التوازي تقف موقفا يائسا بطريقة ثنائية؛ ففي كلتا الحالتين يثور العقل في موقفه الطبيعي، ويجد الطلاب المبتدئون عادة أن المذهبين متساويان في عمقهما. ومن المؤكد أن كلا من هاتين النظريتين لا تقدم أي تفسير يستطيع العلم أن يتخذ منه فرضا مثمرا، وعلى الرغم من أن هذه الحقيقة وحدها لا تكفي لاستبعادهما من مجال البحث الفلسفي. فإنها تحملهما عبء البيئة الأثقل. أما أنهما قادرتان أو غير قادرتين على حمل هذا العبء، فذلك أمر ينبغي تركه للقارئ.
مذهب شمول النفس : أما المحاولة الأخرى للوصول إلى حل واحد لمشكلة الذهن والجسم فهي تلك التي أشرنا إليها من قبل باسم مذهب شمول النفس
صفحة غير معروفة