إحساسا بالالتزام.»
5
عدم اكتراث العالم بأمور البشر : نستطيع أن نعبر عن هذه الفكرة تعبيرا أقرب إلى الطابع العملي، باستخدام تشبيه مستمد من الدراسة النفسية للتكيف. فمشكلة السعادة البشرية، كما يقول عالم النفس، هي مشكلة تكيف: إذ إن السعادة هي النغمة الانفعالية المستمرة التي تقترن بحالة التكيف بين الكائن العضوي السليم وبين بيئته. وبالاختصار فلا بد لنا، لكي نكون سعداء، من أن نصبح مندمجين في العالم المادي والاجتماعي الذي نعيش فيه، إما بتغيير تلك البيئة، وإما (إذا كان ذلك مستحيلا)، بتغيير أهدافنا على نحو يجعلها قابلة للتحقيق. ولكن من واجبنا، حتى نبدأ عملية التكيف، أن نتذكر هذه الحقيقة الأساسية، وهي أن بيئتنا ليست إلا شريكا سلبيا في هذه العلاقة. فالعالم يوجد حولنا بطريقة سلبية، على استعداد لأن يستغل إلى أي حد يمكننا أن نفرض به إرادتنا عليه. أما أن نقبع في أماكننا وننتظر منه أن يخطو الخطوة الأولى، أو يبدي أي اهتمام بمصالحنا وسعادتنا، فهذا دليل على الافتقار إلى النضج العقلي والعاطفي.
والأمر هنا أشبه بحالة طائر يبني عشه تحت سقف مخزن للغلال. فالمخزن هناك، سلبي وغير مكترث بنجاح عملية بناء العش أو إخفاقها. وقد يستهلك الطائر نفسه من فرط التعب دون جدوى؛ إذ إنه ما لم يحل مشكلة تكييف مواده حسب هذا المكان، فإن مآله الحتمي سيكون إلى الإخفاق. ولن يرفع المخزن لوحا من الخشب أو يحرك عمودا، بغض النظر عن جهود الطائر ورغباته. وليس ثمة شيء قادر على أن يحول المخزن عن عدم اكتراثه هذا، لنفس السبب الذي لا يستطيع من أجله أي شيء أن يحول الكون من عدم اكتراثه: فكل منهما لا يمثل إلا فعل القوى الطبيعية. وليس في أي منهما «عقل» أو «روح» أو «شخصية». ولا يوجد في أي منهما شيء يمكن تحريكه بالفكر وحده، سواء اتخذ هذا الفكر صورة أحلام اليقظة الخاملة، أم صورة الميتافيزيقا المذهبية المحكمة، أو حتى صورة الصلوات الخاشعة. وهذه، في نظر صاحب المذهب الطبيعي، هي الحقيقة الأساسية في علاقة الإنسان بالكون الذي يعيش فيه.
المذهب الطبيعي ليس تشاؤميا بالضرورة : على أن موقف المذهب الطبيعي هذا من العالم الذي نعيش فيه لا يعني (كما يسارع أنصاره إلى القول) أن السعادة مستحيلة، أو أن الحياة مهزلة، أو أن الكون دعابة ساخرة هائلة. فالمذهب الطبيعي يهتم بالسعادة البشرية بقدر ما تهتم به أية فلسفة أخرى. ومع ذلك، فهو يختلف عن معظم المدارس الأخرى، ولا سيما المثالية، في الوسيلة التي يمكن بها بلوغ السعادة على أفضل نحو، وتحقيق أكبر قدر من إمكانيات الطبيعة البشرية. ففي رأي صاحب المذهب الطبيعي أن الوسيلة الوحيدة لبلوغ هذا الهدف أن نبني حياتنا وحضارتنا معا على أساس من المذهب الطبيعي. ونحن لن نجني شيئا من الحديث عن «قانون علوي»، أو «عدالة إلهية»، أو «خير كوني» أو «السماء»، أو «المطلق». ولكننا يمكن أن نخسر منه الكثير؛ لأن هذه المفاهيم الغامضة قد تصبح أدوات هروبية، ووسائل لتجاهل شرور اجتماعية واضحة، أو أساليب لتبرير المظالم الكامنة في مجتمعنا. صحيح أن التفكير على أساس مثل هذا «الوحي» يجلب لنا السكينة عندما ننوه بمشكلات فادحة، وعندما تبدو الحياة أعقد من أن تفهم أو أصعب من أن تحتمل، ويتفق صاحب المذهب الطبيعي مع عالم النفس على أن هذه المعتقدات تكون لها في بعض الأحيان قيمة علاجية، من حيث إنها تخفف مؤقتا توتر الحياة اليومية. غير أن هناك خطرا دائما من أن تتحول هذه المعتقدات إلى فلسفة هروبية منظمة، وبذلك تكون عقبة في وجه الإمكانيات الهائلة التي تتيحها الحياة لبلوغ الرضا والسعادة. والحق أن هذه الإمكانيات لا تتحقق على الوجه الأكمل إلا إذا نظمنا حياتنا داخل إطار الواقع؛ أعني الواقع كما نعرفه من خلال التجربة الحسية والعلم. فنحن نحصل من الحياة على أكبر نصيب إذا ما واجهناها، لا إذا هربنا منها، حتى بوسيلة موقرة كالفلسفة. (8) التقابل بين وجهتي النظر لا يمكن التغلب عليه
والآن، ما الذي نصنع، في الختام، حيال هذا الصراع الدرامي بين وجهتي نظر بينهما هذا القدر من التعارض العميق ، كالمذهب المثالي والمذهب الطبيعي؟ كيف يكون من الممكن، أولا، أن يصل أناس أذكياء، متشابهون في تجاربهم وتكوينهم العلمي، ويعيشون في مجتمع واحد وعصر واحد، إلى وجهتي نظر بينهما كل هذا التعارض؟ وكيف يتسنى، مثلا، لواحد من المتمسكين بالمذهب الطبيعي، ولواحد من المتحمسين للمذهب المثالي، أن يمرا جنبا إلى جنب بتجربة مشتركة، وأن يخرج كل منهما بمزيد من الأدلة التي تؤيد وجهة نظره الخاصة؟ لقد أتيح لمؤلف الكتاب مرة أن يقوم برحلة في جبال «هاي سييراز» في كاليفورنيا، برفقة اثنين من أصحاب هذين الاتجاهين الفلسفيين، ووجد أن حججهما طريفة ومحيرة في آن واحد. فإزاء هذا المنظر الهائل المترامي الأطراف، لقمم يبلغ ارتفاعها أربعة عشر ألف قدم، يجد المثالي حتما دليلا على «الخير والحق والجمال»، وإزاء جلال الطبيعة يشعر دائما بغائية الكون وخطته وقد بدت واضحة. فالجبال الكبرى قد أثارت فيه أفكارا كبرى بدورها، وهذه بدورها نقلته إلى «الفكرة الكبرى» الكامنة من وراء هذا كله. وهو في الأعالي وقد وجد «المطلق»، فجبال «سييرا
High Sierras » لها في نظره دلالة رئيسية هي أنها من صنع الله.
ولكن ما هو موقف صاحب المذهب الطبيعي؟
إنه بعد أن أفاق من استجابات المثالي إلى حد يسمح له بالتعبير الكلامي عن استجاباته هو، ظهر التباين في وجهة نظره بكل وضوح. فالمنظر كان بالنسبة إليه رائعا بنفس المقدار، بل يمكن القول إنه كان أقوى إحساسا بالجمال الطبيعي. ولكنه لم يستطع أن يحس، في القمم الشامخة والبحيرات البديعة؛ أي «ذهن» أو أية «خطة» أو «غاية». وإنما أوحت إليه هذه المناظر بالاتساع الهائل في نطاق الطبيعة، وبعزلتها، وثباتها الذي لا ينال منه الزمان، وبالدورة الأزلية لليل والنهار، والصيف والشتاء، والشمس والثلج. وهو لم يجد في ذلك «حضرة» باقية «مقرها نور الشموس الغاربة»، أو لمحات على الخلود، بل إنه كان في معظم الأحيان يبدي إعجابه بأزلية النظام الطبيعي في مقابل قصر عمر الإنسان. وهكذا أشعرته كل هذه العظمة والجمال بصرامة الطبيعة، وكذلك بعدم الاكتراث الهائل للكون إزاء الإنسان وحياته القصيرة. ولعل لفظ «العزلة » كان أكثر الألفاظ ورودا على لسانه وهو يصف أحاسيسه إزاء قمة أو بحيرة. ولقد وجد في هذا المنظر حافزا ومثيرا، وكلنه لم يجده «ملهما» أو «موحيا»، فالحياة في مثل هذا الإطار لمدة أسابيع قليلة كفيلة بتطهير مخه من نسيج العنكبوت الذي يعشش فيه، وبإشعاره بضآلة أمور البشر، (وضمنها أموره الخاصة. ولهذه الحياة بوجه عام تأثير مقو - ولكنه كان التأثير المقوي الناتج عن الاستغراق في إحدى تلك البحيرات التي يبلغ ارتفاعها ميلين. أما الجبال فلم يجد فيها «ذهنا»، بل إن عزلتها الموحشة لم يكن يعدلها إلا عزلة النجوم اللامعة التي تدور حول الرءوس في إطار مرصع يكاد سناه يسلب عين الإنسان الكرى.
الأسباب المحتملة للتعارض بين الموقفين : وهكذا نعود مرة أخرى إلى السؤال: كيف يستطيع الناس أن يمروا بنفس التجربة ويستخلصوا منها مثل هذه النتائج المتباينة؟ إن من المستحيل الاختيار بين المثاليين من حيث هم جماعة وبين الطبيعيين من حيث هم جماعة، على أساس الذكاء أو الإخلاص أو الحكمة أو الإرادة الخيرة. ومن الواجب أن ننظر إلى ما هو أعمق من القدرة العقلية أو اتساع نطاق المعرفة، إذا شئنا أن نفسر التقابل الأساسي بين قطبي الفلسفة هذين. ولقد قسم وليم جيمس، في هذا القرن، وفي البلاد الأمريكية، الناس إلى صنفين كانا في نظره أساسيين: هم «ذوو العقول الصارمة» و«ذوو العقول الرقيقة» وقد لقي هذان التعبيران قبولا واسعا.
صفحة غير معروفة