تاريخ الفلسفة بوصفه صراعا بين تيارين فكريين رئيسيين : يمثل هذا الفصل، والفصل التالي، محاولة للنظر إلى الفلسفة نظرة جامعة مبسطة. وسيكون معنى ذلك - كما هي الحال في كل تبسيط شديد آخر - حذف كثير من الفوارق ومحو الحدود بين المدارس الصغرى. ومن الممكن إضافة هذه العناصر المحذوفة فيما بعد - كلما دعت الحاجة إليها. أما الآن فحسبنا أن ندرك بوضوح وعلى نحو دائم، التقابل الأساسي بين الحركتين الميتافيزيقيتين الكبريين.
وبعبارة أخرى فإن الصورة التي سندركها ونحن ننظر من مكاننا المرتفع إلى أسفل، ستكون أشبه بخريطة للمحيطات توضح عليها الاتجاهات الرئيسية للمياه، كتيار الخليج والتيار الياباني. وفي هذه الحالة، لا يحاول واضع الخريطة أن يبين كل تنوع في متوسط الحركة التي تحدث طوال العام. بل إنه حيث يتلاقى تياران رئيسيان، تصور الخريطة اتحادهما بأنه هادئ تم بلا أي عنف تقريبا. أما الدوامات والحركات العنيفة التي يسفر عنها هذا الالتقاء، فلا يشار إليها إلا إشارة عابرة، وقد تغفل تماما. ومع ذلك فلو أتيح لنا أن نعبر هذا المحيط ملاحة، لكان الانطباع الذي يتكون لدينا مختلفا كل الاختلاف عن تلك المنحنيات البديعة المنسابة التي رسمها صانع الخريطة، بل إن إحساسنا بالمظهر السطحي للمحيط يطغى علينا إلى حد لا نصدق معه أن هناك أي اتجاه عميق ثابت للحركة في هذا المكان. وهكذا نجد تعقدا متصارعا حيث أظهر لنا صانع الخريطة وعالم البحار بساطة منسابة. ومع ذلك فكل من الطرفين على صواب. إذ إن الصورة نسبية لوجهة النظر.
وسنحاول في هذا الفصل والفصل التالي أن نحاكي صانع الخرائط. وفيما بعد، سنقدم عرضا نفصل فيه إلى حد ما ذلك التبسيط الشديد الأول. وسيكون لزاما علينا أن نوضح أهم التيارات الفرعية على الأقل. أما في البداية، فسنبحث أولا أهم حركتين. ولنغير الاستعارة التي كنا نستخدمها مؤقتا فنقول إننا في دراستنا لهاتين المدرستين سنحاول إيجاد تقسيم في مجال الفلسفة له من الأهمية في هذا الموضوع ما لفكرة الشحنات الإيجابية والسلبية في الفيزياء الحديثة؛ ذلك لأن هاتين المدرستين هما الدعامتان الرئيسيتان للتفكير الفلسفي، وحولهما تتحرك معظم المدارس والمفكرون الأفراد فيها. (1) وجهة النظر العامة للمثالية
إن نظرة واحدة نلقيها على تاريخ الفكر في الحضارة الغربية لكفيلة بأن تبين لنا أن المثالية كانت، على الأرجح، أكثر الفلسفات شيوعا وأعظمها أهمية. ولقد انتشرت هذه الفلسفة في العصور الحديثة بوجه خاص، وامتد تأثيرها إلى حد أن الطالب المبتدئ كثيرا ما تتملكه الدهشة حين يكتشف أن «المثالية» و«الفلسفة» ليسا لفظين مترادفين. ولقد كان مركز السيطرة الذي احتلته هذه المدرسة، مقترنا بما لقيته من قبول لدى جميع أنواع السلطات السائدة مؤديا إلى أن تبدو منافستها الكبرى، وهي المذهب الطبيعي
Naturalism
كما لو كانت دخيلا أقحم نفسه في حديقة الميتافيزيقا، أو قريبا فقيرا تسلل إليها. وكان من الأسباب التي أدت إلى احتلال المثالية مركز السيطرة هذا، وجود نقاط اتصال وتقارب بين آرائها وآراء المسيحية، وكان منها أيضا ذلك الموقف التفاؤلي من الحياة والعالم، الذي كانت تتميز به العقلية الغربية. وأيا ما كان المصدر الذي أتى منه التأييد، فإن المثالية قد ظلت قائمة طويلا بوصفها، التراث الأرستقراطي في الفلسفة، ووجد أنصارها أوسع استجابة ممكنة.
وليس معنى ذلك أن المثالية لا تتضمن في ذاتها من المزايا ما يعلل سيادتها على الفكر الغربي، بل إن الأمر على عكس ذلك تماما، فتعاليمها تلقى استجابة قوية من العقل والعاطفة معا، وقد كان بين دعاتها مجموعة من أقدر المفكرين الذين ظهروا بين البشر وهي فضلا عن ذلك ترضي العقل والقلب معا على نحو قد تعجز عنه أية نظرة أخرى إلى العالم . ولما كان هذا الإرضاء المزدوج هو ما ينتظره معظم الناس من الفلسفة، فإن تأثير المثالية وحيويتها قد يظلان باقيين بحق، بل إن خصوم المثالية أنفسهم يعترفون عادة بأنها تتم، بوصفها صياغة ميتافيزيقية، بجلال يبهر النفوس.
الحقيقة النهائية ذات طبيعة نفسية : فما هي الآراء الرئيسية لهذه المدرسة الفكرية؟ إذا تجاهلنا مؤقتا كل المدارس الفرعية المتباينة، وأرجعنا المثالية إلى ماهيتها الأصيلة، كانت هي الاعتقاد بأن الحقيقة النهائية ذات طبيعة نفسية أو روحية، وأن الكون تجسد للذهن أو الروح. فالمثالية ترى أننا إذا شئنا أن نكتسب أوضح تبصر بطبيعة الواقع، فلزام علينا ألا نبحث في العلوم الفيزيائية، بما فيها من اهتمام بالمادة والحركة والقوة، ومن إلكترونات وبروتونات وما شاكل ذلك، بل إن من واجبنا أن نتجه إلى الفكر والعقل وكل الأفكار والقيم الروحية لدى الجنس البشري. وليس معنى ذلك أن الصورة التي يقدمه إلينا العلم عن العالم فيها أي شيء من الخطأ - بل إن من الجائز أنها صحيحة جدا، وفي حدودها الخاصة، غير أنها ناقصة. فالعلم يدع جانبا كثيرا من الأمور التي يراها المثالي ضرورية لكي تكون الصورة صحيحة أو كاملة. مثال ذلك أنه يحذف الاعتبارات المتعلقة بالقيمة بل إنه لا يكاد يعترف بوجود ما يعد (من وجهة نظر المثالي) أهم شيء في الكون - وأعني به الشخصية. وفضلا عن ذلك فالعلم، بما يتسم به من موضوعية ولا شخصية كاملة، لا يملك أن يتجنب تقديم صورة مشوهة لطبيعة الأشياء. فهو يتجاهل بالضرورة أهم عنصر في المعرفة أو التجربة: وهو الذهن أو الأنا المجرب: ذلك لأن من الواضح أن كل إدراك أو معرفة يقتضي ذاتا عارفة، غير أن العلم يتجاهل هذه الحقيقة، والمذهب الطبيعي ينكر أهميتها القصوى. أما المثالية فترى أن هذه الذات العارفة المجربة هي مصدر كل معنى وقيمة، بل مصدر كل وجود. ومن هنا فإن أي مذهب لا يتخذ من الذهن أو الذات العارفة دعامة رئيسية، ينبغي بالضرورة أن يقدم صورة ناقصة (إن لم تكن باطلة) عن الحقيقة.
ومن الواضح أن مثل هذا الكون الذي يكون فيه لب الحقيقة ذهنيا أو روحيا، لا ماديا، هو نظام للعالم وثيق الصلة بالإنسان وأعماله، وأمانيه ومثله العليا. فهو عالم يقدم للفرد تأكيدا بأن له رسالة، وبأن البيئة الكونية تعطف على جهود الإنسان في سبيل تحقيق هذه الرسالة. فالمثالية هي نظرة إلى «الأشياء كما هي»، تجعل من العالم مكانا نستطيع أن نشعر فيه بعلاقة وثيقة بيننا وبين الكون. في مثل هذا العالم نشعر بأننا في وسط ملائم لنا عقليا وعاطفيا؛ إذ إننا نحن وبيئتنا جزء من نظام كوني واحد، ومصدرنا هو نفس «الذهن» أو «الروح».
ومن الأفكار المثالية الأساسية الأخرى، الاعتقاد بأن أذهاننا والعالم الفكري الذي تتحرك فيه ترتبط بالواقع على نحو وثيق وذي دلالة خاصة. ففي نشاطنا العقلي أو الذهني نقترب كل الاقتراب من تلك «الفاعلية» الشاملة التي تشكل الكون. فإذا شئنا أن نعلم ما يكمن في قلب العالم، فعلينا أن نتأمل داخل أنفسنا. ففي أذهاننا ونفوسنا نحن، وفي طبيعة الشخصية الإنسانية، نجد أوضح تعبير عن طبيعة هذه «الفاعلية» الشاملة.
صفحة غير معروفة