تختص الفلسفة، شأنها شأن الدين، بوضع إجابات على أسئلة نهائية معينة. والأسئلة التي يشترك فيها الميدانان بوضوح هي أصل الإنسان ومصيره، وعلاقته بالكون الذي يعيش فيه، وطبيعة الله، وعلاقة الإنسان بالله، وخلود النفس، وحرية الإرادة، وعلاقة السلوك الإنساني بالسعادة الإنسانية. ولا شك أن اشتراك الميدانين، من حيث الموضوع، في مثل هذه المشكلات الكبرى، يكفي في ذاته لكي يجعل الميدانين يتداخلان تداخلا جزئيا. ومع ذلك، فهناك على الأقل أربعة أمور تفصل بين الميدانين فصلا أوضح بكثير. فمن الملاحظ أولا أنه، بينما نجد أن جزءا كبيرا من الموضوعات التي يبحثانها مشترك بينهما، فإن جزءا كبيرا منها مختلف أيضا. فالفلسفة مثلا تتعمق في مشكلة قدرة الذهن على معالجة تجربته معالجة كافية. أما الدين فيحل هذه المشكلة عادة بافتراض مصدرين للمعركة، هما العقل والإيمان، ولا يحلل قدرات أي منهما على أي نحو من الدقة التي تحللها بها الفلسفة. كذلك فإن الفلسفة أكثر اهتماما بالمشكلات العلمية وشبه العلمية، كأصل الكون المادي وتاريخه وقوانينه وتركيبه العام، وأصل الحياة وتطورها، وطبيعة العلية، وما إلى ذلك. ويمكن القول بوجه عام إن مجال نشاط الفيلسوف أوسع من مجال نشاط رجل الدين؛ ومن ثم فإن المشكلات التي يعالجها الفيلسوف تشمل نطاقا أوسع بكثير. وعلى أية حال، فمن الإنصاف أن نقول إنه بينما الاثنان يبدآن بكثير من المشكلات المتماثلة، فالأرجح أن يظل الفيلسوف، بعد مضي وقت طويل من اهتداء المفكر الديني إلى إجابات مرضية، يناضل بعنف في سبيل الاهتداء إلى ما يعده «حلولا أفضل» لنفس المشكلات. والمقصود بهذه الحلول الأفضل، إجابات أدق وأشمل. وبهذا تكون الفلسفة ميالة إلى النظر إلى الأذهان الدينية على أنها معرضة لقبول حلول أسهل مما ينبغي. وأخيرا فأغلب الظن أننا في أية لحظة نرقب فيها الفيلسوف وهو يعمل، سنجده يناضل لحل مشكلات لا تهم اللاهوتي إلا بطريق غير مباشر، إن كانت تهمه على الإطلاق. أي إن الفلسفة، بوجه عام، تتجاوز اللاهوت في نطاقها ومدى تحليلها لأية مشكلة تبحثها.
الفارق الثاني: المناهج
والفارق الثاني بين الميدانين مرتبط بالأول، وهو متعلق بالمناهج التي يستخدمها كل منهما. فالدين، كما رأينا منذ قليل، يقبل قضايا معينة على أنها موضوعات للإيمان - أي يقبلها تصديقا - على حين أن الفلسفة لا تقبل ذلك. ولعل من المفيد - دون الدخول في استطراد طويل نناقش فيه منطق الإيمان أو سيكولوجيته - أن نشير بإيجاز إلى معنى «الإيمان» ما دام هذا اللفظ يستخدم عادة في الدوائر الدينية والفلسفية معا ، فاللفظ، في معناه العادي، يدل على قبول رأي أو مذهب على أنه ينطوي على حقيقة لا تستمد من المصادر الحسية أو من العمليات العقلية. ويعد ذلك المذهب عادة ذا أصل من نوع إلهي أو خارق للطبيعة، فهو نتيجة «للوحي»، الذي يدل بدوره على أية وسيلة يتلقى بها الإنسان مباشرة اتصالا من العالم الخارق للطبيعة. وقد يكون هذا المصدر كتابا (كالكتب المقدسة)، أو أحاديث نبوية، أو تجارب صفوية من نوع ما. ومع ذلك فلا بد أن يكون الوسيط المباشر للوحي إنسانا ما، ولكن قدرته على أن يكون حلقة اتصال بين الله والناس العاديين تؤخذ بدورها على أنها موضوع للإيمان.
ومن الصحيح بالطبع أن المفكر الديني يستخدم المنطق والعقل، ويحرز في ذلك نتائج رائعة، عند شرحه لتفاصيل هيكل التفكير الديني، غير أن المنطق والعقل يستخدمان هنا لإضافة أدلة عقلية إلى ما يقبله هو، مع سائر المؤمنين. على أساس الإيمان. وفي معظم حالات التفكير الديني، نجد أنه إذا ظهر تعارض أو تناقض بين وحي «الإيمان» وثمار «العقل»، فإن الأخيرة تخضع للأولى، وتخلي استنتاجات العقل مكانا لمشاعر الرضا التي يستطيع الإيمان بعثها فينا. أما في الفلسفة فإن للعقل والمنطق دورا رئيسيا. فالفيلسوف على استعداد تام (بل هو حريص كل الحرص) على صياغة نظرة إلى العالم ترضي مطالب الرأس والقلب معا، أما إذا لم يكن هناك مفر من التضحية بأحدهما، فهو في الأغلب يضحي بأشواق القلب.
الفلسفة والعقل : كل هذا يعني أن الميل الطاغي للفيلسوف إنما هو الميل إلى المعرفة، مهما يكن الثمن: فإذا ما أدى بحثه وراء المعرفة والفهم إلى تفسير للتجربة يوازي تفسير معظم الأديان، كان ذلك أفضل. أما إذا أدى استدلاله بمنطق محكم إلى نظرة للعالم لا تكون لحياتنا فيها من غاية أو قيمة إلا ما نستطيع تحقيقه بجهودنا الخاصة في عالم غير شاعر بوجودنا ولا مكترث بسعادتنا، فليكن الأمر كذلك. أي إن الفيلسوف يبذل كل جهد للسير وراء العقل إلى أية نتيجة يؤدي إليها. وهو يسعى، بقدر ما في البشر من طاقة، إلى مجاراة العالم وتجاهل نزوعه الانفعالي خلال بحثه عن الحقيقة. وفي ذلك يقول برتراند راسل: «إن لب النظرة العلمية هو رفض النظر إلى رغباتنا وأذواقنا واهتماماتنا على أنها تمدنا بمفتاح فهم العالم».
1
وبينما الفيلسوف لا يحقق دائما هذا المثل الأعلى الصارم بنفس الكمال الذي يتعين على العالم أن يحققه به، فإن تفانيه من أجله، بوصفه مثلا أعلى، يفيد في التمييز بين نشاطه وبين نشاط المفكر الديني.
ويذكر مؤلف الكتاب أنه سمع ذات مرة سيدة متقدمة في السن طيبة النوايا، تسأل فيلسوفا صارم الذهن: «ولكن ألا تستطيع أن تقنع نفسك عقليا بمثل هذا الإيمان؟» فكان جوابه الفوري: «أليس ما تعنينه هو: ألا أستطيع أن أبرر لنفسي
2
هذا الإيمان؟» وهو يعني بذلك عمل نفس الشيء الذي يحرص العالم والفيلسوف معا كل الحرص على تجنبه - ألا وهو ترك انفعالاته، ورغبته البشرية الطبيعية في العيش في عالم ملائم لنا ولغاياتنا، تؤثر في النتائج التي يتجه إليها استدلاله. فمهما تكن ضروب الإرضاء الأخرى التي قد تتيحها الحياة للفيلسوف، فلا بد له من أن يكتسب الرضا العقلي قبل كل ما عداه. وبينما بعض الأشخاص يرون أن أي مفكر يضع رضاء العقل في مرتبة أعلى من رضاء القلب، لا يكاد يكون بشرا، فإن الفيلسوف يرى أن أي موقف مخالف لذلك لا يمكن أن يكون جديرا بكائن مفكر.
صفحة غير معروفة