الفلسفة أنواعها ومشكلاتها

فؤاد زكريا ت. 1431 هجري
151

الفلسفة أنواعها ومشكلاتها

تصانيف

كلمة تلخيص : وهكذا يتحتم على مشكلة الحرية البشرية أن تنتهي كما تنتهي كل مشكلات الفلسفة: فلدينا إجابتان ممكنتان، كل منهما منطقية مقنعة، وكل منهما لها مزاياها العديدة، وعلينا أن نختار بينهما. ولا مفر لنا عند القيام بهذا الاختيار من أن نتأثر بنظرتنا العامة إلى العالم. ولكن ما الذي يتحكم في نظرتنا هذه إلى العالم؟ للإجابة عن هذا السؤال، ينبغي أن ندور في حلقة مفرغة: فاللاحتمي يقول إن اختيارنا لنظرتنا إلى العالم اعتباطي؛ إذ إن من الممكن القيام به على أسس أخلاقية وعقلية في فراغ لا سببية فيه. أما الحتمي فيقول إن اختيارنا لنظرتنا إلى الحياة هو أمر محدد لنا. وفي استطاعته أن يذكر عوامل متعددة تسهم في هذا التحديد الأساسي: منها عوامل ذهنية (كالتعليم والبيئة العقلية العامة، إلخ)، وعوامل مادية (كالصحة وتوازن الغدد)، وعوامل اجتماعية أو اقتصادية (كالجماعة الاقتصادية التي نولد فيها، ومقدار الشعور بالاستقرار الذي يمكننا الوصول إليه، إلخ). فنظرتنا إلى العالم، في رأي الحتمي، خاضعة لتحكم هذه العوامل الداخلية والخارجية مجتمعة، مثلما أن مسار الشهاب يتحدد تبعا للقوى المؤثرة فيه.

وسوف نعود في الفصل الأخير من هذا الكتاب إلى بحث هذا الموضوع العلمي الشائق، موضوع أصل تلك المواقف المتباينة من العالم والتجربة البشرية، كالمثالية والطبيعية. ومع ذلك فلا بد لنا، قبل محاولة القيام بتحليل نهائي، أن نواجه عدة مشكلات فلسفية رئيسية أخرى، بعضها يرتبط بعلم الأخلاق المعاصر ارتباطا وثيقا.

الفصل الخامس عشر

الأخلاق المعاصرة ومشكلاتها

كان المحور الرئيسي لتفكيرنا، في الفصول الثلاثة الخاصة بالأخلاق، والتي ختمناها منذ قليل، هو الأخلاق التقليدية أو الكلاسيكية. فالمصطلحات والمفاهيم والحجج قد توطدت كلها نتيجة لكثرة الاستعمال - فتلك هي الأدوات أو المقاييس التي ظل المفكرون الأخلاقيون يستخدمونها أجيالا عديدة، بل إن كثيرا من المفاهيم والخلافات ترجع إلى وقت سقراط وأفلاطون وأرسطو. والواقع أنه كان من المستحيل ، في مدخل عام إلى الفلسفة كهذا، أن نتجنب هذه النزعة التقليدية في التفكير الأخلاقي. ولقد كان من الممكن حتى عهد قريب القول بأنه لا يوجد فرع في الفلسفة تم استطلاعه وكشف معالمه كالأخلاق، ومن المؤكد أنه كان أقل الفروع تبشيرا بحدوث تطورات في المستقبل. وهكذا كان يبدو وكأن مختلف المدارس في ميدان الأخلاق قد حاربت بعضها بعضا حتى وصلت إلى مرحلة توقف - أو على الأقل نفدت ذخيرتها - دون أن يلوح في الأفق أي مصدر جديد لإمدادها بالمزيد منها. وعلى الرغم من أن مبحث القيم أو نظريتها العامة قد تطور تطورا ملحوظا خلال العصور الحديثة، مما أتاح أساسا نظريا أمتن للتأمل النظري الأخلاقي، فإن الأمور في ميدان الأخلاق ذاته بدت مستقرة تماما. وكل ما كان يمكن أن يقال في صف كل وجهة نظر كان قد قيل مرات متعددة على ألسنة الأجيال المتعاقبة من أنصار وجهة النظر هذه. وهكذا كان الملاحظ الذي يقوم باستعراض للأخلاق في مجموعها خلال العقد الأول أو العقدين الأولين من هذا القرن، خليقا بأن يكون في ذهنه انطباعا بأن هذا ميدان فكري ساكن نسبيا.

ومع ذلك ففي خلال ربع القرن الأخير أو نحو ذلك. تجددت حيوية الأخلاق على نحو ملحوظ. فقد توقف إلى حد بعيد ذلك التسكع القديم الهادئ في الدروب المطروقة للتفكير الأخلاقي، وعاد هذا الفرع من الفلسفة في الوقت الحالي إلى النشاط على نحو لا يقل عن نشاط أي فرع آخر في هذا الميدان. ولسنا نستطيع أن نحدد بدقة سبب يقظة الأخلاق من حالة الركود هذه، ومن الجائز أن عوامل متعددة قد تضافرت لتحقيق ذلك. وحين يستعرض المرء المؤلفات التي نشرت في هذا الموضوع خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، يبدو له أن هناك عاملين كان لهما تأثير خاص: أحدهما كان تأثيره تراكميا بطيئا، على حين أن الآخر كان انقلابيا مفاجئا . وبين هذين العاملين أتيح للمفكرين المعنيين بالنظرية الأخلاقية أن يقضوا في الآونة الأخيرة وقتا مليئا بالحيوية، وتفجرت خلافات جديدة في أرض الأخلاق بكثرة مثيرة.

هذان العاملان الرئيسيان اللذان أثرا في الأخلاق المعاصرة هما: (1) نمو العلوم الاجتماعية، ولا سيما علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا (2) والتجريبية المنطقية. ولو رجعنا بأنظارنا عدة عشرات من السنين، لوجدنا أن العامل الأول من هذين كان هو الأهم، أما بالنسبة إلى السنوات القلائل الأخيرة فقد كانت التجريبية المنطقية هي الأهم. وعلى أية حال فقد كان تأثير هذين العاملين معا من الأهمية بحيث أدى إلى تغيير كبير في ميدان الأخلاق بأسره. ومن سوء الحظ أن الخلاف الذي أثارته التجريبية المنطقية يحتدم الآن بشدة، وما زال الغبار كثيفا إلى حد لا نستطيع معه أن نذكر إلى أين تتجه المعركة. ومن ثم فإن أي عرض نحاول تقديمه قد يغدو بعد سنوات قلائل متخلفا عن ركب الزمان، ويقدم إلى الطلاب صورة مزيفة عن حدث هام في تاريخ الأخلاق؛ ولذا يبدو أن من الأفضل التركيز على التأثير الأوضح بكثير الذي مارسته العلوم الاجتماعية على الأخلاق المعاصرة. وعلى حين أن كثيرا من المشكلات التي أثارتها العلوم الاجتماعية لم يبت فيها بعد، من وجهة النظر الأخلاقية، فإن هذه المشكلات قد أصبحت الآن مبوبة ومعروضة بقدر من الدقة يتيح تقديم عرض متوازن لها؛ لذلك فسوف نكرس ما لدينا من حيز محدود لهذه المشكلات. (1) الأخلاق والعلوم الاجتماعية

كان من المحتم، بمجرد أن وصلت العلوم الاجتماعية إلى مكانتها العقلية الراهنة، أن يكون لها تأثير في التفكير الأخلاقي. فعلى عكس الفكرة السائدة بين الناس، والقائلة إن الفلاسفة (وضمنهم فلاسفة الأخلاق)، يسكنون أبراجا عاجية لا تربطها بالعالم الخارجي للحياة اليومية البشرية أدنى صلة، نجد أن التفلسف النظري في الأخلاق كان دائما وثيق الارتباط بالتفكير النظري والممارسة العملية المتعلقين بالميدان الاجتماعي المحيط به. بل لقد كان هذا التفلسف عادة مرتبطا ارتباطا وثيقا بالإطار الاجتماعي المباشر الذي يوجد فيه، ولو كان في التفكير النظري الأخلاقي ضعف عام واحد، فما ذلك إلا اتجاهه إلى أن يكون مجرد تبرير غير ظاهر أو «بطانة» عقلية صنعت بحيث يمكن أن تبنى عليها العادات الأخلاقية الرسمية أو المعترف بها في مجتمع معين وعصر معين. وبالاختصار فقد كانت الأخلاق، على وجه العموم، محلية أو إقليمية. ولم تكن معظم المذاهب الأخلاقية «شاملة» أو «أزلية» أو «مطلقة» أو «مثالية» كما تزعم عادة، وإنما كانت نسبية تبعا للحضارة والعصر التاريخي اللذين ظهرت فيهما. وفضلا عن ذلك كان الكثير منها ينتسب بوضوح إلى الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفيلسوف، أو التي ارتبط بها دون وعي.

ولو كان علينا أن نلخص التأثير العام للعلوم الاجتماعية في الأخلاق، لكان من الإنصاف أن نصفه بأنه زيادة في اتجاه الدقة والعمق، ونقص في الاتجاه المضاد، وهو اتجاه الإقليمية أو المحلية. هذه الدقة والعمق هي في الواقع مزيد من الوعي الذاتي والموضوعية؛ أي الإدراك المتزايد بأن الأخلاق تتعرض دائما للخطر الذي وصفناه من قبل، وهو أن تغدو مجرد أساس نظري للقواعد الأخلاقية المعمول بها في العصر الراهن. ومعنى ذلك أن المفكرين الأخلاقيين يبذلون جهدا مطردا لعبور مجالات المناخ الحضاري وتجاوز حدود القواعد الأخلاقية السائدة محليا، من أجل الوصول إلى الأسس الحقيقية للحكم الأخلاقي. وقد أصبحنا الآن أقوى شعورا مما كنا في أي وقت مضى بضرورة (وصعوبة) تحديد أساس نظام أخلاقي شامل بحق، بدلا من ذلك الذي ينطبق على المدنية الغربية وحدها، ويلائم المسيحيين دون غيرهم.

الأنثروبولوجيا الاجتماعية والأخلاق : من الجائز أن الأنثروبولوجيا الاجتماعية هي التي كان لها أكبر الأثر في هذا الصدد. ولقد أشرنا في فصل سابق إلى أن العالم الأنثروبولوجي لم يكن أول من اهتدى إلى أن العادات البشرية والمعايير الأخلاقية تتنوع إلى حد بعيد في شتى أرجاء العالم. ومع ذلك فقد كان أول من أماط اللثام عن كثير من الأسس الأيديولوجية التي تبرر هذه التنوعات. فقد كشفت لنا الأنثروبولوجيا عن مدى الاختلاف الجذري الذي يوجد بين بعض هذه الأيديولوجيات، بحيث لا يكون من المبالغة أن نقول إن أفراد جماعة حضارية معينة لا يعيشون في نفس العالم الذي يعيش فيه أفراد جماعة أخرى. فإذا قارنا مثلا بين فكرة حيوية الطبيعة، وهي الفكرة التي تضفي على الأشياء والقوى المادية عقلا وإرادة ، وبين النظرة العلمية التي تحرص على استبعاد هذه الأرواح من العالم المادي، لتبين لنا أن القائل بحيوية الطبيعة والعالم لا يتكلمان لغة واحدة بأي معنى حقيقي لهذا اللفظ. ويستنتج علماء الأنثروبولوجيا من ذلك أن من العبث لذلك أن نتوقع من الطرفين أن يتكلما لغة أخلاقية واحدة؛ ذلك لأن من حقنا أن نتساءل: أليس من الممكن، بل من المرجح، أن يكون عالما القيم اللذان يعيش فيهما القائل بحيوية الطبيعة والعالم متباينين بقدر ما تتباين نظرتاهما إلى العالم الطبيعي؟

صفحة غير معروفة