من الشائع محاولة تعريف الفلسفة من خلال موضوعها، وبالفعل يجد المبتدئ في الفلسفة عادة أن هذه التعريفات السكونية أو الثابتة أكثر فائدة بالنسبة إليه. فهناك تعريف يتخذ صيغة شاملة تعطي لكلتا الطريقتين في النظر إلى ذلك الميدان حقها، يقول إن الفلسفة محاولة مستمرة منظمة «للنظر إلى الحياة في مجموعها، وبطريقة ثابتة». ويفهم هذا التعريف أحيانا بمعنى البحث المنظم عن معان وقيم، وأحيانا أخرى على أنه يوحي باختبار متعمق لطبيعة الواقع، من ذلك النوع الذي يقوم به العالم عندما يبحث في خصائص العالم الفيزيائي أو طبيعة النشاط العضوي. ولكن أيا كانت طريقة فهمنا لهذه العبارة، فالفلسفة هي محاولة دقيقة منظمة للربط بين الكون والحياة البشرية على نحو له مغزاه. وكما قال شخص ما، فإن هدف الفلسفة هو «كشف طبيعة الكون، وعلاقتنا به، وما ينتظرنا فيه، وذلك لغرض مزدوج هو إرضاء عقولنا في سعيها إلى إشباع حب استطلاعها، وقلوبنا في سعيها إلى إضفاء أكبر قدر ممكن من الدلالة والقيمة على الحياة البشرية والتجربة البشرية».
2
إن الفلسفة، (ولا سيما في نشاطها التركيبي)، تمثل الجهود التي ترمي إلى الجمع بين المعرفة كلها والتجربة كلها، سواء منها ما يكتسبه الفرد والجنس بأكمله، في نسق متكامل. وهي تسعى إلى تنظيم كل الحقائق في كل موحد، وإلى أن تستخلص من حياتنا اليومية كل تلك الأوجه الجزئية للتجربة التي ترد إلينا في صورة مجزأة، لكي تمزج بينها في صورة متكاملة. وقد يسمى المفكرون المختلفون هذه الصورة المتكاملة نظرة إلى العالم، أو ترديدا للواقع، أو تلخيصا عاما لطبيعة الأشياء تخطيطا لصورة «المجهول»، أو إطارا يحدد «ماهية الأشياء في ذاتها»، أو تصويرا للمنطق. ولكن أيا كان الاسم الذي نطلقه عليها، وأيا كان ما تمثله في أذهاننا، فإن الدافع الذي يحفز إلى تكوين مثل هذه الصورة واحد في كل مكان وكل عصر: وأعني به زيادة الفهم، وإشباع رغبة الإنسان في أن يعرف؛ وبالتالي جعل الحياة أقرب إلى الفهم وأجدر بأن نحياها في آن واحد.
الفلسفة بوصفها حب الحكمة : نستطيع أن نستشف من المعنى الأصلي للفظ «الفلسفة»، عناصر كثيرة من قصتها. فهذا المعنى كان عند اليونانيين «حب الحكمة»؛ ومن هنا كان الفيلسوف «محبا للحكمة». وقد تفضل وجهة النظر الحديثة النظر إليها على أنها السعي وراء الحكمة أو البحث عنها، غير أن التمييز ليست له على الأرجح أهمية. فالحب يؤدي عادة إلى سعي من نوع ما، وحب الحكمة ليس استثناء لهذه القاعدة. والمهم في الأمر أن الرغبة في الحكمة، لا في الأشياء المألوفة التي يتجه إليها الناس عادة، هي التي تحفز الفيلسوف إلى ممارسة نشاطه. فالمعرفة هي ميله المفضل، والفهم هو هدف حياته. غير أن الفيلسوف يختلف، على الأرجح، عن كثير من أقرانه في درجة الفهم اللازمة لإرضائه. ذلك لأن معظم الأذهان تكون على استعداد للاستقرار والاكتفاء إذا ما جمعت من المعرفة ما يكفي لمواجهة الحاجات العملية للحياة اليومية، أو لجعل أصحاب هذه الأذهان يشعرون بأن لديهم على الأقل بعض الاستبصار بمعنى التجربة البشرية. أما الفيلسوف فلا يقنع بهدف متواضع كهذا، وإنما المعرفة عنده تعني المعرفة الشاملة - أو على الأقل المعرفة التي تكون شاملة بالقدر الذي تتيحه الحياة البشرية القصيرة، والحدود التي لا يتعداها الذهن البشري. فالحكمة الفلسفية تنطوي على نوع من الفهم الأصيل للكون وللتجربة البشرية بأكملها.
الفلسفة بوصفها سعيا عمليا : ومع اعتراف الفيلسوف بأن هدفه أبعد منالا من الأهداف الأخرى الأكثر تواضعا، التي يصبو إليها معظم الناس، فإنه ينكر القول بأن مسعاه أبعد عن الطابع العملي من سائر المساعي البشرية العادية، ذلك لأنه يعتقد أن حافز حب الاستطلاع متغلغل وطبيعي في الإنسان، شأنه شأن أية دوافع أخرى من النوع المسمى «بالعملي»، كاللذة، أو القوة، أو الشهرة، فإذا كان أي نشاط يهدف إلى إرضاء رغبة هو نشاط عملي، فعندئذ يكون البحث عن الفهم أو الحكم، الذي ينشأ عن رغبة من أكثر الرغبات تأصلا في نفس الإنسان، بحثا عمليا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. صحيح أن للفيلسوف عادة من هذا الدافع الخاص أكثر مما لدى معظم الناس، ولكن لا يوجد شخص واحد لا يملك قدرا معينا منه. فحب الاستطلاع جزء لا يتجزأ من كيان الإنسان، ومعنى أن يكون المرء محبا للاستطلاع هو أن يطلب إجابات عن أية أسئلة تدخل في نطاق عقولنا الدائمة التنقيب؛ ومن هنا فإن المرء عندما يتفلسف فهو إنما يحقق إنسانيته. وسواء أقمنا بهذا التفلسف عن وعي، وباستمرار، وبوصفنا محترفين، أم بلا وعي، وعلى فترات متقطعة، وبوصفنا هواة، فلا بد أن نتفلسف على نحو ما، لمجرد كوننا منتمين إلى نوع «الإنسان العاقل
Homo Sapiens ».
ملخص التعريفات : فإذا ما شئنا تلخيصا لهذه التعريفات المتباينة، كان في وسعنا أن نصف الفلسفة بأنها النشاط الذي يسعى فيه الناس إلى فهم طبيعة الكون، وطبيعة أنفسهم، والعلاقات بين هذين العنصرين الأساسيين في تجربتنا. وهكذا تكون الفلسفة بحثا منظما عن المعرفة، نقوم به عن طريق التفكير المنظم في كشوف العالم، ونتائج المؤرخ، ورؤيا الفنان والشاعر والمتصوف، مع الجمع بين هذه كلها وبين تجربتنا اليومية الشخصية. وتقتضي هذه الأفكار المنظمة من جانبها تحليلا دقيقا لقدرة الذهن على اكتساب المعرفة، بحيث إن جزءا أساسيا من النشاط الفلسفي يتألف من دراسة مصادر المعرفة البشرية ومناهجها وحدودها. ولما كانت المعرفة توصل إلى الغير وتسجل عادة، فإن هذا بدوره قد يؤدي إلى تحليل لوسائل الإنسان في الاتصال بغيره، ولا سيما اللغة.
إننا عندما نتفلسف نحاول الإجابة عن الأسئلة التي تطرأ بأذهان الناس جميعا في وقت ما، عن طبيعة الحياة ومعناها وقيمتها . وهكذا فإن موضوع الفلسفة هو طبيعة الوجود، وطبيعة التجربة، وأخيرا، العلاقة التي تربط بين الإنسان وذهنه وبين بقية الكون. فالسعي الفلسفي هو في أساسه سعي وراء معرفة شاملة عن طبيعة التجربة ومعناها وقيمتها. (5) مشكلات الفلسفة
سرعان ما يتضح لنا، عندما نخوض ميدان الفلسفة، أن دراسة هذا الموضوع تقتضي قبل كل شيء الإلمام بمشكلات معينة. وسرعان ما ندرك أن الفلسفة تدور حول هذه المشكلات الرئيسية، ثم نكتشف بمضي الوقت أن هذه المشكلات وحلولها المتعددة هي ذاتها الفلسفة. والواقع أن تاريخ هذا الميدان هو إلى حد بعيد سجل للإجابات المختلفة التي وضعت لنفس المجموعة من الأسئلة التي تتكرر دائما. ولقد تعددت هذه الإجابات بقدر ما تعددت الأذهان التي وضعتها، وبلغت من التباين حدا يصعب معه أحيانا الاعتقاد بأن المقصود منها هو أن تكون إجابات لنفس المجموعة من المشكلات. ومع ذلك فهناك من وراء هذا كله لب عميق من المشكلات الدائمة التي ناضلت حولها أجيال متعاقبة من المفكرين. فالمجتمعات تتغير، والمدنيات تنشأ وتنهار، ولكن كل عصر وكل مجتمع تقريبا، يخلف وراءه من الآثار ما يكفي لإثبات أنه قد صارع بدوره مع المشكلات القديمة جدا، والباقية على الدوام، للفلسفة. وسوف نعالج معظم هذه المشكلات الكبرى بشيء من التفصيل في الفصول القادمة، ولكن قد يكون من المفيد ها هنا أن نقدم وصفا موجزا لبعضها، ما دامت هذه هي الطريقة الوحيدة التي نستطيع بها تكوين فكرة عن نطاق الفلسفة وأهدافها.
المشكلة الأساسية : كانت المشكلة الأساسية في الفلسفة التقليدية أو الكلاسيكية هي دائما: بماذا تتعلق التجربة البشرية بأسرها؟ هذا السؤال، إذا ما فهمت دلالته الكاملة، لاتضح أنه يلخص (أو يتضمن على الأقل) معظم المشكلات والمسائل الأخرى التي تعالجها الفلسفة. فالفيلسوف المحترف يسأل هذا السؤال دائما في صورة مجردة ما، مثل: ما طبيعة الحقيقة النهائية؟ أما غير المتخصصين فهم أقرب إلى أن يصوغوا هذا السؤال بطريقة مثل: ما معنى الحياة والكون؟ وبينما هذا السؤال الأخير يقتضي إجابة مختلفة إلى حد ما، فإنه بدوره يشير إلى نفس المشكلة الرئيسية . وأيا كانت طريقة صياغته ، فإنه هو السؤال الأساسي الذي يبني حوله أي مذهب في الفلسفة. ويمكن القول إن كل شخص قد تساءل هذا السؤال، بصورة ما، في وقت معين من حياته، بغض النظر عن ذكائه، أو مدى ثقافته، أو عدم اكتراثه الظاهري بالتأمل الميتافيزيقي.
صفحة غير معروفة