جوهر مذهب اللذة : يبدو موقف مذهب اللذة، في جوهره، بسيطا للغاية. «فالخير» يعد في هوية مع «اللاذ»، و«الشر» مع «غير اللاذ». فاللذة وحدها هي التي لها قيمة عليا في نظر صاحب هذا المذهب. والواقع أن من أوضح أسباب جاذبية وجهة النظر هذه، بساطتها الظاهرة. ومع ذلك فإن أي مذهب أعقد مما يبدو لأول وهلة؛ إذ إنه ربما كان يشتمل على ما يقرب من ستة أفكار منفصلة. فأولا، تعد اللذة والألم مشاعر؛ أي مشاعر غير قابلة للتحليل، ولا يمكن ردها إلى أصول نفسية أبعد منها. وهما غير قابلين للتعريف أو الوصف. ومن حسن الحظ أن طابع عدم القابلية للتعريف هذا لا يقضي على النظرية تماما؛ إذ إننا نعرف جميعا بالتجربة المباشرة ما هي اللذة وما هو الألم. وثانيا ينظر مذهب اللذة إلى كل شعور باللذة على أنه خير، وكل شعور بالألم على أنه شر، بالنسبة إلى الفرد الذي يمارسه،
2
فهذه تجارب مطلقة تكون خيريتها أو شريتها مستقلة عن كل شيء آخر. وثالثا تعد كل اللذات، في مذهب اللذة الخاصة، من نوع واحد. فللذة لذة، والألم ألم، بغض النظر عن المصدر. وهذا يؤدي بالضرورة إلى إرجاع الفارق بين أية لذتين على أساس كمي. فالأرجح أن يكون الفارق بين أية تجربتين في اللذة فارقا في الشدة والمدة، وقد تكون إحداهما أنقى من الأخرى (أي أقل امتزاجا بالألم)، ولكنهما فيما عدا هذه الفوارق الكمية متماثلتان. مثل هذا الرد للكيف إلى الكم يعني أن التقدير النهائي لأية تجربة يتحدد حسب كمية اللذة والألم تسفر عنها، وهذه الكمية يمكن الاهتداء إليها عن طريق ضرب شدة الشعور في مدته. وهذا بدوره يوحي بما يسمى بحساب اللذات
Hedonic Calculus ، الذي نقارن فيه اللذات بعضها ببعض على أساس عائدها من اللذة أو الألم، ثم نقوم الموضوع أو الموقف تبعا لهذه النتيجة الرياضية. فإذا كانت نتيجة الجمع الجبري زيادة إيجابية في اللذة، كان الموقف أو الموضوع الذي نبحثه «خيرا»، وإذا انتهينا إلى إجابة سلبية؛ أي إلى ألم يفوق اللذة - كان «شرا».
3 (1) نوعان من مذهب اللذة
النوع النفسي
ينبغي، قبل أن نمضي إلى أبعد من ذلك، أن نضع تفرقة أساسية بين مذهب اللذة النفسي ومذهب اللذة الأخلاقي، فالأول، كما يوحي به اسمه، أقرب إلى النظرية النفسية منه إلى المذهب الفلسفي. وبدلا من أن يكون مذهب اللذة النفسية هذا متعلقا بمسألة ما يبغي أن يفعله الناس (أي ما ينبغي أن يرغب فيه) - وهو ما يتوقع من أية نظرية أخلاقية - فإنه يقتصر على بحث سلوك الناس الفعلي (أي ما يرغب فيه فعلا). وتنكر المدرسة النفسية أن للإلزام أية صلة بالموضوع. فكل الحيوانات، وضمنها الإنسان، لها تركيب من شأنه أن يجعلها تبحث آليا عن اللذة وتتجنب الألم. هذا هو قانون الطبيعة الشامل الذي لا يحتمل استثناء. فاللذة هي الشيء الوحيد المرغوب فيه بوصفه غاية في ذاته، والسعي إليها هو الدافع الأول لأوجه النشاط الحيوية. ولما كنا لا نستطيع أن نرغب في أي شيء غيرها، فمن الواضح أن التساؤل عما إذا كان ينبغي أن تكون لنا أهداف أخرى أم لا، ليس إلا مضيعة للوقت، بل إن الاهتمام الوحيد المشروع للأخلاق، ومن وجهة نظر صاحب مذهب اللذة النفسي، هو مسألة الطريقة التي يمكننا بها تحقيق أكبر قدر من اللذة، أو النجاح إلى أقصى حد في تجنب الألم.
الحجج المضادة لمذهب اللذة النفسي: (1) اللذة ناتج ثانوي : كان لمذهب اللذة النفسي على الدوام أنصار كثيرون، وذلك نظرا إلى شدة وضوح هذا المذهب وبساطة التفسير الذي يقدمه للسلوك الإنساني. ومع ذلك فإن أنصار هذا المذهب لم يجيئوا عادة من بين صفوف الفلاسفة، بل من بين صفوف عامة الناس. فقد أدرك المفكر الأخلاقي منذ وقت طويل أن هذا الوضوح الظاهر يخفي وراءه اعتراضات كثيرة. أهم هذه الاعتراضات هو تلك الملاحظة التي أبداها أرسطو منذ وقت طويل، وأيدتها شواهد كثيرة منذ ذلك الحين، وهي أن الناس قلما ينشدون اللذة مباشرة. كذلك فإنهم قلما ينشدونها عن وعي، بل إننا نرغب بدلا من ذلك في موضوعات محددة أو مواقف عينية، بحيث لا تكون اللذة أو الإشباع إلا ناتجا ثانويا لسعينا إليها أو بلوغنا إياها. فعندما نكون جياعا نبحث عن الطعام، لا عن لذة الأكل (التي هي عارضة)، وعندما نكون في حالة حب نبحث عن موضوع حبنا، لا عن لذة الحب. فاللذة، كما أشار أرسطو، هي حالة شعورية تنشأ عندما يقوم الكائن العضوي بأي عمل من الأعمال المتعددة التي يصلح لها دون أن يعترض طريقه شيء. غير أن اللذة عارضة بالنسبة إلى النشاط أو العمل ذاته. فنحن لا نقوم بالعمل من أجل اللذة الناتجة، وإنما من أجل الوصول إلى أشياء معينة أو تحقيق مواقف خاصة. «إن الشخص الذي يرغب في الطعام يرغب في الطعام، والشخص الذي يرغب في لعب البلياردو يرغب في لعب البلياردو، والشخص الذي يرغب في تنصير الكافر يرغب في تنصير الكافر - لا في اللذة، بل إن فكرة اللذة قد لا تطرأ على ذهنه مطلقا».
4
ويشعر القائل بمذهب اللذة بأن من السهل عليه الرد على هذه الحجة. فهو يعترف بأن فكرة اللذة قد لا تكون موجودة بوصفها غاية واعية، ولكنه يؤكد أن الهدف النهائي مع ذلك هو نوع من اللذة أو الإشباع. أما كوننا غير واعين بهدفنا، أو لم نصرح به، فليس دليلا على أننا سنؤدي الفعل، سواء أجلب لنا لذة أو لم يجلب.
صفحة غير معروفة