المصدر المنطقي : لا يتميز الأساس المنطقي للنزعة المطلقة بنفس الوضوح الذي يتميز به أساسها التاريخي، غير أن للأول أهمية أعظم بكثير بالنسبة إلى الفكر المعاصر؛ ذلك لأن أنصار المذهب المطلق في الأخلاق قد ظلوا طوال أكثر من قرن من الزمان يحاولون تقديم دعامة عقلية، ومنطقية، تحل محل الأساس الذي كانت عقيدة التوحيد تقدمه من قبل. وربما كان «كانت» أشهر هؤلاء العقليين في ميدان الأخلاق. وقد كان يعتقد أن التحليل يستطيع على الدوام أن يثبت أن خرق القانون الأخلاقي هو أيضا خرق لقوانين المنطق، فاللاأخلاقية تنطوي دائما على تناقض منطقي. ولنقتبس أشهر الأمثلة التي ضربها «كانت» في هذا الصدد، فعندما نعطي وعدا دون أن يكون في نيتنا الوفاء به، فإن سلوكنا يكون شرا لأننا نتصرف على أساس مبدأين متناقضين في آن واحد. أول هذين المبدأين هو أن الناس ينبغي أن يؤمنوا بالوعود. ولكني إذا أخلفت وعدي، فمعنى ذلك أن لكل شخص الحق في أن يخلف وعوده، ما دام القانون الأخلاقي ينبغي أن يكون شاملا. ولو أخلف كل شخص وعوده، لما عاد أحد يؤمن بالوعود، ولكان لدينا مبدأ آخر - هو أن من الصحيح أن أحدا لا ينبغي أن يؤمن بالوعد - وهو مبدأ يتناقض مع الأول. ولقد كان «كانت» يعتقد أن جميع أمثلة الشر يمكن أن ترد بدورها إلى أمثلة لانعدام الاتساق المنطقي. وهكذا يصبح قانون عدم التناقض هو المبدأ الأساسي للأخلاق، كما كان دائما بالنسبة إلى المنطق. (3)
المصدر الكيفي : من أحدث المحاولات التي بذلت لإيجاد أساس عقلي للنزعة المطلقة، نظرية سبق لنا الإشارة إليها: «فالخير» كيفية لا تعرف، ولا ترد إلى غيرها، تتصف بها أشياء أو أفعال أو مواقف معينة، وهي كيفية شبيهة بالكيفيات اللونية، كالأصفر مثلا. وعلى الرغم من أن العالم الفيزيائي يستطيع تعريف الأصفر على أساس كمي (فيقول إنه كذا من الذبذبات في الثانية في أثير مفترض)، فإن أي لون يشكل، بالنسبة إلى تجربتنا المباشرة، معطى حسي لا يرد إلى غيره، ولا يمكن أن يعرف إلا بالتجربة. وكذلك فإن القيمة، (وهي في هذه الحالة، القيمة الأخلاقية) كيفية لا تعرف ولا ترد إلى غيرها، تتصف بها أشياء أو مواقف معينة، مثلما تتصف الليمونة بالاصفرار.
الحجج المضادة للنظرة الكيفية : على الرغم من أن هدفنا ليس نقد النزعة المطلقة، وإنما عرضها بوصفها الموقف الذي ثارت عليه النزعة النسبية، فإن من المفيد مع ذلك أن نشير إلى حجة أو اثنتين وجهتنا ضد هذه النظرية الكيفية في «الخير». فمن الممكن أولا أن يشير المرء إلى أن التشبيه باللون فاسد تماما. ذلك لأننا حتى لو سلمنا بأن اللون موضوعي كامن في الشيء (وهو أمر لا يقره إل القليل جدا من علماء النفس)، فلن يكاد يكون هناك وجه للمقارنة بين كيفيتي «الخير» و«الأصفر». ذلك لأن المفروض أن كل شخص ذي إبصار سوي ستكون لديه نفس التجربة عندما ينظر إلى شيء أصفر. وبعبارة أخرى، فللأصفر، من حيث هو تجربة، مركز شامل يسري على الجميع. فهل يستطيع «الخير» أن يدعي أي مركز كهذا؟ على الرغم من أنه قد تكون هناك تجارب أو أشياء قليلة تعد «خيرا» في نظر الجميع ، وعلى نحو شامل، فإن عددها ضئيل جدا بالقياس إلى تلك الأشياء التي لا حصر لها، والتي لا يوجد حولها أدنى اتفاق. ومن هنا كان التشبيه باللون غير صحيح.
وهناك اعتراض ثان، ربما كان أخطر، على هذا الرأي القائل إن الخيرية كيفية أو صفة كامنة؛ ذلك لأننا حتى لو سلمنا بأن الخيرية كامنة في أشياء ومواقف معينة، فإن هذا التسليم لن يكون أساسا كافيا للإلزام الخلقي. ولنقتبس في هذا الصدد تلك الحجة المقنعة التي وردت في كتاب «ستيس
Stace »:
إن كون الشيء يتصف بكيفية أو صفة، يفرض علي إلزاما عقليا أو نظريا محضا بأن أعترف أن لديه هذه الكيفية. ولكن كيف يفرض على ذلك أي التزام بأن أسلك؟ ولم كان يتعين على أن أفعل شيئا حياله؟ لو قيل لي أن زهرة معينة صفراء، ورأيت هذا بعيني، فعندئذ أستطيع أن أفهم أن أكون مضطرا إلى الاعتراف بحقيقة القضية القائلة إن هذه الزهرة الصفراء، بل إنني لا أستطيع أن أفعل غير ذلك ... فأنا مضطر إلى قبولها. ولكن هذا لا يمكنه أن يرغمني على أي نوع من الفعل. فهو لا يرغمني مثلا على التقاط الزهرة. ولن أفعل ذلك إلا إذا كنت أحب الأزهار الصفراء، أو لدي أي ميل آخر يدفعني إلى التقاطها. وكذلك، فإذا قيل لي إن شيئا أو فعلا يتصف بصفة الخير، وإذا أدركت أنا ذاتي ذلك فإني أستطيع أن أفهم هذا سيرغمني على الاعتراف بحقيقة القضية القائلة إن «هذا خير»، ولكنه لا يمكن أي يفرض علي إلزاما عمليا أيا كان. وسأظل لا أفعل أي شيء، ما لم يحدث أن أكون ممن يحبون هذه الأشياء الخيرة. وفي هذه الحالة يكون ميلي هو الذي يدفعني، لا الحقيقة النظرية التي أوضحت لي.
5 (5) الثورة على النزعة المطلقة
إن الموقف النسبي، كما أوضحنا من قبل، هو في أساسه ثورة على النزعة المطلقة. وهو أيضا جزء لا يتجزأ من المزاج العقلي العام لعصرنا، فالنسبية في كل الميادين تبدو في نظر معظمنا «واضحة بذاتها»، مثلما كانت النزعة المطلقة بالنسبة إلى الأذهان في العصور الوسطى. والواقع أن المزاج النسبي يسود الفكر الحديث إلى حد أصبحت معه كل أشكال النزعة المطلقة - سواء منها العلمية أم السياسية أم الأخلاقية أم الدينية - تتخذ موقف الدفاع
6
ولما كنا قد كرسنا كل هذا الوقت لعرض وجهة نظر النزعة المطلقة، فسوف تبدو النسيبة، لحسن الحظ، مذهبا يسهل وصفه.
صفحة غير معروفة