رجعنا إلى حكاية الحال، وإتمام المقال: فلفقت المقادير أن جرى ذكري بين يديه وعرض شيء من أمري عليه فلمح بذكاء قلبه، وصحّة حدسه من تلك الأنباء حقيقة حالي قبل اللّقاء، وتقدّم بالحضور في خدمته، فلما حضرت راعني ما شاهدت من كمال هيئته وراقني ما عاينت من جمال صورته، وشريف سيرته فكان أوّل ما أنشدته قول المتنبي:
وما زلت حتى قادني الشوق نحوه ... يسايرني في كلّ ركب له ذكر
وأستعظم الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغّر الخبر الخبر [١]
(طويل) ثمّ تابع من ألطافه ما غرس به ودّا، وجنى منه ثناء وحمدا، فرأيت أن أخدم حضرته بتأليف هذا الكتاب، ليكون تذكرة له، وتذكرة لي عنده، يذكرني به إذا غبت عن عالي جنابه، وانفصلت عن فسيح رحابه.
وهذا كتاب تكلّمت فيه على أحوال الدّول وأمور الملك، وذكرت فيه ما استظرفته من أحوال الملوك الفضلاء، واستقريته من سير الخلفاء والوزراء وبنيته على فصلين [٢]:
فالفصل الأول تكلّمت فيه على الأمور السلطانية والسّياسات الملكيّة وخواص الملك التي يتميّز بها عن السّوقة [٣]، والتي تجب أن تكون موجودة أو معدومة فيه وما يجب له على رعيته وما يجب لهم عليه، ورصعت الكلام فيه بالآيات القرآنية والأحاديث النبويّة، والحكايات المستطرفة والأشعار المستحسنة.
والفصل الثاني: تكلّمت فيه على دولة من مشاهير الدول التي كانت طاعتها عامّة، ومحاسنها تامّة، ابتدأت فيه بدولة الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان
_________
[١] صغر الخبر الخبر: كذّب الواقع ما يروى من الكلام، والتجربة أصدق.
[٢] بعض الطبعات لم تلتزم بتقسيم المؤلف كتابه إلى فصلين، ومنها هذه الطبعة التي اعتمدنا عليها في تحقيق الكتاب وسنحاول التزام خطّة المؤلّف وتسمية أجزاء الفصل الثاني بأسماء الدّول التي تناولها المؤلّف بالتأريخ. ع. م م.
[٣] السّوقة: عوامّ الناس وأخلاطهم، ونقيضهم الملوك والأمراء.
1 / 19