ولأول مرة أمضي نحو الغابة. وقفت عند حافتها مستطلعا؛ فرأيت الأشجار الشامخة صفوفا منسقة كالطوابير، والعشب يغطي أرضها ويكسوها بخضرة غضة يانعة، وثمة قناة تشقها بالعرض تتفرع عنها جداول متلألئة، وتجاوب جوها بزقزقة العصافير، فبثت في الهواء عزفا وطربا. واستأنست بكل شيء فتقدمت غير هياب. لم أصادف إنسانا ولكني ثملت بالوحدة والسلام. قلت لنفسي: يا للخسارة! ضاع عمر هدرا، سامح الله الذين تصوروا أن تكون الجنة مأوى للعفاريت. وعند مركز الوسط تقريبا ترامت إلي ضحكة. الحق أن قلبي ارتجف، ولكن تلاشى خوفي في ثانية. لا ريب أنها ضحكة ابن آدم، تفحصت ما حولي بعناية. لمحت على مبعدة حلقة من الشبان، وسرعان ما تبين لي أنهم ليسوا بالغرباء، جيران أو زملاء بالمدرسة، اتجهت نحوهم وأنا أحمحم. تحولت الرءوس نحوي حتى سلمت ووقفت باسما. بعد صمت سألني أحدهم: أهلا، أي مصادفة سعيدة جاءت بك؟
فتساءلت ضاحكا: وماذا جاء بكم أنتم؟ - كما ترى، نتسامر أو نقرأ أو نتناقش! - منذ زمن طويل؟ - ليس قصيرا على أي حال.
قلت بعد تردد: يسرني أن أنضم إليكم لو سمحتم. - هل تحب القراءة والمناقشة؟ - أحبهما من كل قلبي. - تفضل إذا شئت.
منذ تلك اللحظة بدأت حياة جديدة، يمكن أن أطلق عليها حياة الغابة. طيلة العطلة الصيفية نمضي كل يوم ساعتين على الأقل في الحلقة. ومع زقزقة العصافير هبطت أفكار ورؤى. انتقلت الدنيا من حال إلى حال. ليس الأمر لهوا ولعبا ولا رياضة عقلية تمضي إلى حالها. إنها تشير إلى مسيرة ومغامرة وتجربة محفوفة بكافة الاحتمالات. وكان من عادتي أن أجالس أبوي بعد العشاء. نستمع إلى الفونوغراف، ونتبادل الحديث. وكنت قد احتفظت بسر الغابة فلم أطلع عليه أحدا. وكان أبواي آخر من أتصور أن أبوح لهما به. منذ زمن لا أذكر أوله استقرا في أعماق طمأنينة أبدية ونعما بسلام دائم. ولا يخرج أبي عن إطاره إلا إذا أغرته السياسة بأخبارها. يطيب له متابعة الأحداث والتعليق عليها. ويوما ختم حديثه بقوله: ما أكثر عجائب هذا البلد!
فاندفعت أقول له: العجائب لانهاية لها.
فحدجني بنظرة متسائلة فقلت: إليك بعض الآراء بما يدور في مجتمعنا.
وتكلمت بإيجاز وتركيز، فأنصت إلي ذاهلا ثم هتف: أعوذ بالله، ليس أصحاب هذه الآراء بآدميين، ولكنهم عفاريت!
عند ذاك أدركت أنني أصبحت من عفاريت الغابة المسكونة.
في المدينة
1
صفحة غير معروفة