أجل، أمامه واجبات معقدة كثيرة، أو كما قال لنفسه: «لولا الأسرة لقمت بسباحة حول الأرض غير مبال بشيء». وفكر أول ما فكر في عمله، فتراءى له لأول وهلة أن يتخلى عنه لنائب عنه، ولكنه سرعان ما استبعد الفكرة، ما دام أن العمل سيشغل وقته، وينقذه زمنا لا يستهان به من الوحدة والأفكار المضادة. وانهمك في توزيع ثروته ومشاورة محاميه بما يحقق الاستقرار لأهله، وتوفير الضرائب التي يمكن توفيرها. ولم يبح بسر مرضه إلا لزوجته، أما الأبناء فقد رسم خطة لإعدادهم للنهاية دون إزعاج لا ضرورة له قبل الأوان .. وواصل ترشيده لهم في الأمور التي تهمه كالجنس والمخدرات وشئون المال والعمل. والحق أن انهماكه في ذلك كله خفف من قسوة محنته، وبخاصة في إبان حدتها وشدتها. واستعاد شهيته للطعام ولم يشعر بأي ألم مما هجست به نفسه، ومارس رياضاته المحبوبة باعتدال. ووجد امتنانا كبيرا للعلم وما أبدعه من مسكنات، ولم ينقطع عن ناديه وأصحابه ولا عن شجون الحديث في الاقتصاد والسياسة. وكلما ألمت خاطرة سوداء ردد في باطنه قول طبيبه وصديقه: «كلنا أمام الموت سواء »، بل إنه مع مرور الزمن أخذ يؤمن بأن مرضه أتاح له فرصا لم تكن مهيأة من قبل.
ألم يستعد لأمور كثيرة كان يمكن أن تترك معلقة وأن يشقى بها أهله؟
واعترف أيضا بأنه خفف من عبء الدنيا الذي حمله على كاهله طويلا وفي معاناة مستمرة. حقا ما زال يواصل عمله، ولكن هان توتره العصبي الذي لم يرحمه جل حياته. إنه يعمل من أجل الدنيا ولكنه لم يعد أسيرا في قبضتها. وانجابت عن وجدانه مخاوف كثيرة طالما ناوشته مع كل طلوع شمس. موت أول ابن له في عز الشباب، ماذا يعني الآن؟! حسده لأقران له لعبوا دورا أكبر من دوره في تاريخ وطنه. تدبير الدولارات اللازمة لشراء مستلزمات الإنتاج. الركود الاقتصادي والخوف من العجز عن تسديد بعض الأقساط للبنوك. مستقبل البلد السياسي وما ينذر أمثاله من تقلبات مجهولة.
أجل يصح له اليوم أن يتساءل عما ينتظره بعد الموت. إنه لم يدخل في حياته جامعا إلا في مناسبة دعي فيها ضمن من دعوا ليكونوا في شرف استقبال رئيس الجمهورية. لم يؤد فريضة دينية قط ولا يعرف عن دينه شيئا يذكر، ولكنه يعتبر نفسه من المؤمنين بالله ورسوله. ويؤمن بأن الله أرحم الراحمين بمخلوقاته. فضلا عن أنه لم يرتكب في حياته إثما كبيرا كما كان كريما مع الفقراء من أقاربه وأصدقائه. ولم يفكر في أن يعرف من شئون دينه ما فاته أن يعرفه؛ خشية أن تفتح له المعرفة أبوابا تفسد عليه صفوه وطمأنينته إلى رحمة الله. أقنع نفسه بأن إيمانه البسيط سينقذه بلا حاجة إلى مزيد، ومرت له لحظات خيل إليه أنه اليوم أسعد مما كان أمس. وعجب لذلك عجبا شديدا. أكان يضمر كراهية لحياته الماضية رغم الصحة والنجاح؟ أكان يجاهد وهو لا يدري ليتحرر من قبضتها العاتية؟ هل ضاق بأن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، وود أن يتعامل معها كأنه يموت غدا؟
وقال لصديقه يوما وهما يتناجيان: المرض لقنني درسا، وهو: أن الموت صديق في ثياب عدو.
على ضوء النجوم
في الصباح الموعود تجمع الفريق، وهو على أتم الاستعداد. الشتاء يطوي ذيوله والجو ينفث في الأرواح الحيوية والنشاط. ارتدى كل فرد بنطلونا صوفيا «وبلوفر» رماديا، وغطاء رأس من القطن الأبيض، وانتعل حذاء من المطاط، وجيء بشاحنة متوسطة، فحملت بالأطعمة الجافة وقوارير المياه، وهل علينا رجل فارع الطول واضح الملامح مهيب الطلعة، مثلنا في زيه كأنه واحد منا، غير أنه يطوق عنقه بقلادة تدلى منها صفارة فضية فوق صدره العريض. قال بصوت جهير: أنا مرشدكم، والله يوفقكم، هل اطلعتم على التعليمات؟
فأجبنا بالإيجاب، فعد ثلاثا ثم قال: سيروا ورائي على بركة الله.
فمضت القافلة تخترق الصحراء والسيارة تتهادى وراءها. رحلة كل عام ولعبته التي تجرى تحت رعاية اتحاد الأندية الرياضية. يسير الفريق وراء المرشد، وعلى كل أن يخمن الواحة التي يقصدها، معتمدا على ما حصل من معلومات عن الصحراء، ومن يصدق تخمينه يحصل على الجائزة السنية. والجائزة لا تقسم، وينالها كل فائز وإن تعدد الفائزون. سرنا مع طلوع الشمس، يخيم علينا الصمت، نستذكر التعليمات حتى لا نخرج من السباق لهفوة عارضة، ونمارس ما أوتينا من قوة ملاحظة وفطنة ومعرفة يحدونا الأمل في الفوز. المنظر يتمادى، وتختفي من أبعاده المعالم، ويمضي على وتيرة واحدة تبعث على الملل. وقاومت الرمال أقدامنا، واقتضتنا جهدا إضافيا. وثقل الوقت، وتساءلنا ألا يوجد محطات للراحة؟ شعرنا بالحاجة إلى الكلام لولا أنه ممنوع، أما مخاطبة المرشد فتعتبر خطيئة. إنها رحلة ممتعة وواعدة، ولكنها شاقة أيضا، بل شاقة فوق ما تصورنا، ولا يخبرها بحق إلا من يكابدها. وحدث أن تبادل زميلان كلمة بسبب لا ندريه وإذا بالمرشد يتوقف عن السير، ويلتفت نحوهما كأنما رآهما بعين ثالثة، وقال بحزم: إلى السيارة.
قال أحدهما: سألته عود ثقاب لأدخن.
صفحة غير معروفة