فقال بهدوء كريه: في هذه الحالة سأوصي إليك بأن يتركوك لشأنك، دون رعاية أو عناية.
فقلبت النغمة قائلا: أعطني مهلة قصيرة.
فقال موافقا: لك ذلك.
أنفقت بقية النهار متسكعا، وتجاذبتني طوال الوقت الحقائق والأحلام، ولم تبق إلا خطوة يسيرة؛ لأتساءل عمن أكون، وفي أي مكان أقيم، والزمان الذي أعاصره. ورجعت مساء إلى عمارتي، ولكني قصدت شقة الجارة لا شقتي. وخيل إلى أنها استقبلتني دون مبالاة، وربما بشيء من الجفاء، وكأنما تعاقبني على إعراضي عنها ليلة أمس. ولكن مسكنها يضفي علي شعورا بالألفة، ولا يخلو من فتور وضجر وإحساس شبه خفي بالخيبة. وهو بعيد كل البعد عما يجده الزائر المتسلل من التوتر والمغامرة. ولكيلا تتساءل عن سر غيابي الوشيك زعمت لها أني راحل إلى قريتي لمهمة طارئة. وفي الصباح أعددت حقيبتي وذهبت إلى المصحة بحلوان. وهي مبنى رائع يقع في أقصى المدينة، ويقوم على هضبة تطل على الصحراء. واخترقت حديقة واسعة لأصل إلى البناء في العمق، وقادوني إلى جناح يتكون من صف طويل من الحجرات، تفتح أبوابها على ممشى طويل يتصل بالحديقة بسلم رخامي يشغل الوسط. وتبدت حجرتي بيضاء الجدران والسقف، بها ما يلزم من فراش وصوان وخوان ومقعدين، ولبثت وحيدا، حتى جاءتني ممرضة ناضجة الشخصية والأنوثة بالغداء. سألتها عن الطبيب فأجابت بأدب: سيجيء في وقته!
وأعطتني قارورة صغيرة تشف عن أقراص بيضاء خالية من أي ملصقات، وقالت: حبة بعد كل وجبة.
فقلت محتجا: ولكنني لست مريضا.
فقالت بهدوء وهي تغادرني: ليست مصحتنا للمرضى، ولكنها للراحة والأمان.
وأخذت أشعر بالندم على المجيء، وأنتظر في ملل متصاعد. وفي تمام الخامسة مساء، انفتح الباب ودخل الطبيب. جلس على المقعد الآخر أمامي وقال: بداية حسنة، فانعم بالأمن والأمان.
فقلت بقلق: ولكني أتعاطى دواء. - ما هو إلا مهدئ وفاتح للشهية. - ومتى يستحسن أن أذهب؟ - وقتما تشاء من ناحية المبدأ، أما إذا راعينا مصلحتك، فالأوفق أن تذهب بعد أن تؤدي الامتحان. - أي امتحان يا سيدي؟ - ما عليك إلا أن تسجل على الورق أكبر مشكلة مصرية، وأكبر مشكلة عالمية، ثم تفكر في الحل المناسب لكل منهما.
فندت عني ضحكة عالية، وقلت: لا شك أنك تمزح يا سيدي.
صفحة غير معروفة