حتى العقيدة الإسلامية لم تخل من تأثر بهذا الامتزاج، أتظن أن الفارسي أو السوري النصراني أو الروماني أو القبطي إذا دخل في الإسلام امحت منه كل العقائد التي ورثها من آبائه وأجداده قرونا، وفهم الإسلام كما يريد الإسلام من تعاليمه؟ كلا! لا يمكن أن يكون ذلك، وعلم النفس يأباه كل الإباء، فللفارسي صورة للإله غير صورة النصراني الروماني، وهما غير صورة النصراني المصري، وللألفاظ المستعملة في الديانات كجهنم والجنة وإبليس والملائكة والآخرة والنبي ونحو ذلك من معان عند كل من هؤلاء تخالف المعاني التي يتصورها الآخر، فلا تظن أن هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام من الأمم الأخرى فهموه بحذافيره كما فهمه العرب، حتى المخلصون منهم في اعتناقهم الإسلام، إنما فهمه كل قوم مشوبا بكثير من تقاليدهم الدينية القديمة، وفهموا ألفاظه قريبة من الألفاظ التي كانت تستعمل في ديانتهم؛ والشواهد على ذلك كثيرة، كالذي رواه الأزدي في كتابه فتوح الشام من أن رجلا من مسلمي الشام تصالح مع آخر على أن يرعى له غنمه في نظير أن يهبه زوجته تبيت عنده، وقد دعاهما عمر بن الخطاب فأقرا بأن ليس عندهما علم بحرمة ذلك؛ وكالذي ذكره ابن عبد ربه في العقد الفريد من تشدد الموالي في الدين تشددا لا يعرفه عرب البادية
13 ، وقد ظهر تأثير هؤلاء القوم في أواخر القرن الأول للهجرة بظهور المذاهب المختلفة كما سنبين ذلك إن شاء الله، ولعل هذا المعنى هو الذي أخاف عمر بن الخطاب عند الفتح، فقد روى أبو حنيفة الدينوري في كتابه «الأخبار الطوال»: «أن المسلمين أصابوا يوم جلولاء غنيمة لم يغنموا مثلها قط، وسبوا سبيا كثيرا من بنات أحرار فارس، فذكروا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من أولاد سبايا الجلوليات! فأدرك أبناؤهن قتال صفين»، نعم إنه استعاذ بالله وحق له أن يستعيذ منهم، ومن كل الموالي ونسلهم، فقد كانت لهم عصبية سياسية غير العصبية العربية وضدها، ولها تقاليد دينية لا بد أن ينزعوا إليها ويخالفوا بهذه النزعة الإسلامية العربية في بساطتها.
الحق أن الامتزاج كان قويا شديدا، وأن الموالي وأشباههم كان لهم أثر في كل مرافق الحياة، وأنه كانت هناك حروب في المسائل الاجتماعية، كالحروب البدنية بين الجنود، ولكن لم يعن المؤرخون بتفصيلها وهي أولى بالعناية، فقد كانت حرب بين الإسلام والديانات الأخرى، وكانت حرب بين اللغة العربية واللغات الأخرى، وكانت حرب بين الآمال العربية وآمال الأمم الأخرى، وكانت حرب بين النظم الاجتماعية العربية البسيطة، وبين النظم الاجتماعية الفارسية والرومية، ولئن كانت الحروب البدنية قد انتهت تقريبا بفتوح أبي بكر وعمر وعثمان، فإن الحروب الأخرى ظلت قائمة بعد ذلك طويلا وأصبحت المملكة الإسلامية مجالا فسيحا لهذه الحروب تتنازع فيها الآمال، ففرس يحنون إلى مملكتهم القديمة، ويعتقدون أنهم أرقى من العرب؛ وروم كذلك؛ والمغرب ومصر يودون الاستقلال، كما أن النظم السياسية فيها متضاربة: فرس لهم نظام خاص، وروم لهم نظام مغاير، وقانون روماني كان يسود المستعمرات الرومانية، وقانون فارسي كان يسود المملكة الفارسية، وإسلام يستمد منه قانون يوافقهما أحيانا ويخالفهما أحيانا، وفرس مجوس ظلوا مجوسا، وفرس أسلموا، وروم نصارى، وروم أسلموا، ومصريون نصارى، ومصريون أسلموا، ويهود في هذه البلاد ظلوا يهودا، ويهود أسلموا، ولغة عربية وفارسية وقبطية ويونانية وعبرية؛ كل هذه النزعات واللهجات كانت في حروب مستمرة، وكانت المملكة الإسلامية كلها هي موطن القتال ، ولم يصلنا مع الأسف من وقائعها إلا النزر اليسير، فلم تعد الأمة الإسلامية أمة عربية، لغتها واحدة ودينها واحد وخيالها واحد، كما كان الشأن في عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم ، بل كانت الأمة الإسلامية جملة أمم، وجملة نزعات، وجملة لغات تتحارب، وكانت الحرب سجالا، فقد ينتصر الفرس، وقد ينتصر العرب، وقد ينتصر الروم.
والحق أن العرب وإن انخذلوا في النظم السياسية والاجتماعية وما إليها من فلسفة وعلوم ونحو ذلك، فقد انتصروا في شيئين عظيمين: اللغة والدين؛ فأما لغتهم فقد سادت هذه الممالك جميعها، وانهزمت أمامها اللغات الأصلية للبلاد، وصارت هي لغة السياسة وهي لغة العلم، وظل هذا الانتصار حليف العرب في أكثر هذه الممالك إلى اليوم؛ وكذلك الدين، فقد ساد هذه الأقطار واعتنقوه، وقل من بقي من سكان هذه البلاد على دينه الأصلي، ومع انتصار هذين العنصرين - اللغة والدين - فقد تأثر كل منهما أثناء هذه الحروب؛ فاللغة لم تعد سليقة وفشا فيها اللحن، حتى احتاجت إلى قوانين تضبطها، قال أبو عبيدة: «مر عبد الله بن الأهتم بقوم من الموالي وهم يتذاكرون النحو فقال: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده، قال أبو عبيدة: ليته سمع لحن صفوان وخاقان ومؤمل بن خاقان»
14
وكذلك غلبت على اللغة كلمات أعجمية، وتراكيب أعجمية، وخيال أعجمي، ومعان أعجمية، وقل مثل ذلك في الدين، فهو وإن انتصر فقد تأثر، فتفرق المسلمون فرقا ووضعت المذاهب المختلفة، وشرح القرآن نفسه بما ورد في الكتب الأخرى من أقاصيص بدء الخليقة وما إلى ذلك، وظلت هذه الفرق تتجادل بالقول أحيانا، وبالسيف أحيانا.
والآن نريد أن نتعرض بشيء من التفصيل لبيان ما يتصل بموضوعنا من هذه الحركات، وهي الحركة العقلية، بأوسع معانيها من علم ودين؛ لقد كان للفرس دين، وكان لهم حكمة، وكان لهم عقلية، وكان للروم دين وعلم وعقلية، وقد أثر هذان العاملان أثرا كبيرا في الأمة الإسلامية، فلنشرحهما ونبين أثرهما.
مصادر هذا الباب
اعتمدنا في الفصل الأول من هذا الباب على: (1)
صفحة غير معروفة