وأصحابه ينتصرون، فلم يسعهم إلا الإسلام، فهؤلاء كان دين كثير منهم رقيقا،
لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ، وبحق قسم المؤرخون الصحابة إلى طبقات حسب مراتبهم، أوصلها بعضهم إلى اثنتي عشرة طبقة آخرهم من أسلم يوم الفتح
19 .
كذلك كان سكان المدن والقرى، بل من دخل في الإسلام بعد من الأمم الأخرى أكثر تدينا، وأعرف بأحكام الإسلام من كثير من سكان البادية، جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان، وهو يحدث أصحابه - وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند - فقال: والله إن حديثك ليعجبني، وإن يدك لتريبني (يريد أنه يخشى أن تكون قد قطعت في سرقة)، فقال زيد: وما يريبك من يدي؟ إنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري أليمين يقطعون أم الشمال؟ فقال زيد بن صوحان صدق الله:
الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، ويقول الطبري في هذه الآية : «الأعراب، وهم من نزلوا البادية، أشد جحودا لتوحيد الله، وأشد نفاقا من أهل الحضر في القرى والأمصار، وإنما وصفهم جل ثناؤه بذلك لجفائهم، وقسوة قلوبهم، وقلة مشاهدتهم لأهل الخير، فهم لذلك أقسى قلوبا، وأقل علما بحدود الله».
فكثير من هؤلاء الأعراب كانت معرفتهم بالإسلام سطحية، كانوا يعكفون على الشراب، ويتبعون تقاليد قبائلهم الجاهلية، ويعقدون ألويتهم ويحاربون القبائل المعادية لهم في الإسلام كما كانوا يفعلون قبله؛ فأما الإسلام الحق والعقلية المسلمة فكانت أظهر في المدن، وخاصة فيمن أسلموا قبل الفتح، وكانت كذلك فيمن أخلص للدين من أهل المدن التي فتحها المسلمون.
إذا كان في العصور الأولى للإسلام نزعات جاهلية، ونزعات إسلامية، كانتا تسيران جنبا إلى جنب، والذي يظهر لنا أن النزعة الجاهلية أثرت في الأدب الأموي - وخاصة الشعر - أكبر أثر، فالمعاني الجاهلية، والهجاء الجاهلي، والفخر الجاهلي، والحمية الجاهلية، كلها واضحة أجل وضوح في الشعر الأموي، فأما النزعة الإسلامية فظهرت في العلوم الشرعية، فقد أقبل المسلمون على القرآن يتدارسونه، والحديث يجمعونه، ويستمدون منهما الأحكام، ويستخرجون المواعظ، وهذا هو موضوعنا، وهو ما سنبينه بعد، وسنذكر عند الكلام على الحركة العلمية أثر الإسلام في العلم.
الفصل السابع
الفتح الإسلامي، وعملية المزج بين الأمم
ستجد الكلام على الفتح الإسلامي مفصلا في القسم الخاص بالحياة السياسية من كتابنا، وإنما نعرض هنا في مسألة الفتح لما كان له اتصال بحياة المسلمين العقلية والدينية، وبعبارة أخرى لما كان له تأثير في العلم أو في الدين، من طريق مباشر، أو غير مباشر.
صفحة غير معروفة