الغساسنة:
كون الغسانيون في الشام إمارة كالتي كونها اللخميون في الحيرة، ويذكر النسابون كذلك أن أصلهم من اليمن، وقد امتد حكمهم تقريبا على مقاطعتي حوران والبلقاء، ويظهر أنه لم يكن لهم مقر ملك ثابت، فأحيانا يفهم من قول الشعراء أن الجولان والجابية عاصمتهم، وأحيانا يذكرون جلق بالقرب من دمشق على أنها هي العاصمة.
وعلى العموم فتاريخ الغسانيين في الشام من الأمور الغامضة في تاريخ العرب، وإذا قارنا بين ما رواه المؤرخون عن أمراء الحيرة وما رووه عن الغسانيين وجدنا الأول واضحا مفصلا ، والثاني ناقصا متناقضا، فبينا حمزة الأصفهاني وأبو الفداء مثلا يعدان ملوك الغساسنة واحدا وثلاثين، إذا بابن قتبية والمسعودي يعدانهم عشرة أو أحد عشر، كذلك يعد حمزة مدة ملك الحارث بن جبلة عشر سنين، بينا مؤرخو الرومان المعاصرون يعدون ملكه 40 سنة؛ وهكذا، بل إذا نحن قارنا بين ما رواه العرب عن الفرس وتاريخهم وما يتصل بهم عامة، وما رووه عن الرومان وما يتصل بهم، وجدنا أن ما ذكروه عن الأولين أدق وأقرب إلى الصحة، وما ذكروه عن الآخرين ناقص مضطرب غير صحيح - في كثير من الأحيان - ولعل السبب في هذا أن الفرس أنفسهم دونوا ملكهم وملك الحيرة، وعنهم أخذ مؤرخو العرب وإن لم تصل إلينا الأصول التي نقلوا عنها، وقد جاء في تاريخ الطبري ما نصه: «وقد حدثت عن هشام بن محمد الكلبي أنه قال: إني كنت أستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر بن ربيعة (الحيريين) ومبالغ أعمال من عمل منهم لآل كسرى وتاريخ نسبهم من بيع الحيرة، وفيها ملكهم وأمورهم كلها»
4 .
أما المؤرخون المعاصرون للغسانيين فكانوا يونانيين يكتبون باللغة اليونانية، وكان العرب أقل اتصالا باليونانيين منهم بالفرس.
أضف إلى ذلك أن من دخل في الإسلام من موالي الفرس كانوا أكثر عددا من الموالي اليونانيين، وكان موالي الفرس يتعصبون لقومهم ويرون أن في حفظ تاريخهم ونشره رفعة لشأنهم.
وعلى كل حال فقد كان للغسانيين إمارة بالشام، وكان بينهم وبين إمارة الحيرة عداء شديد، وكثيرا ما وقعت بينهم الحروب الهائلة.
وأهم أمراء الغسانيين وأول من يثق محققو المؤرخين بإمارتهم الحارث بن جبلة، وقد عينه الإمبراطور جوستنيان سنة 529م أميرا على جميع قبائل العرب في سوريا ومنحه لقب «فيلارك وبطريق
» وهو أعلى لقب بعد الإمبراطور، وكان الحارث نصرانيا على مذهب اليعاقبة، وكان يعد حاميا من حماة كنيستها، وقضى أكثر أيام حكمه في محاربة المنذر الثالث أمير الحيرة، وفي يونيه سنة 554 انتصر الحارث نصرا عظيما على المنذر في قنسرين، وربما كانت هذه الوقعة هي التي عرفت عند العرب بيوم حليمة والتي ورد فيها المثل المشهور: «ما يوم حليمة بسر»، وقد سافر الحارث هذا سنة 563م إلى القسطنطينية ليفاوض الإمبراطور في شئون الحرب التي بينه وبين الحيرة، وفي من يخلفه على كرسيه، ومات سنة 569 أو 570م.
وخلفه ابنه المنذر فغزا عرب الحيرة فانتصر عليهم في وقعة «عين أباغ»، ولم يكن الإمبراطور جوستين الثاني - وهو الذي خلفه جوستنيان - يميل إليه، فحاول اغتياله فلم يفلح، وعلم المنذر بمكيدته فثار وأبى محالفته، وظل كذلك ثلاث سنين، ثم هدد عرب الحيرة تخوم الرومانيين، فاضطروا لمصالحة المنذر والتعاقد معه في سنة 580، وبعد موت الإمبراطور جوستين سافر المنذر بولديه إلى القسطنطينية فاستقبلوا استقبالا حافلا وألبسه الإمبراطور التاج، ثم ساءت العلاقة بين الغساسنة والروم لأسباب يطول شرحها.
صفحة غير معروفة