115

فجر الإسلام

تصانيف

وليس له أن يقيس على اشتقاقهم فيطلق ما لم يطلقوا، قال الخليل بن أحمد: أنشدني رجل: ترافع العز بنا فارفنععا، فقلت: ليس هذا شيئا، فقال: كيف جاز للعجاج أن يقول: تقاعس العز بنا فاقعنسسا، ولا يجوز لي!»

2

فترى من هذا إلى أي حد وصل العرب في المحافظة على تقاليد من قبلهم، حتى يلجئهم ذلك إلى أن يصفوا ناقة وبعيرا، وهم إنما يركبون بغلا وحمارا؛ ويدعوا أن الأرض أنبتت قيصوما وجثجاثا، وهي إنما أنبتت إجاصا وتفاحا؛ ولا يبيحوا؛ لأنفسهم أن يشتقوا كلمة قياسا على اشتقاق مثيلها، فهؤلاء لا يكون لهم من الحرية ما يسمح لهم بأن يدخلوا ملاحم لم يكن يعرفها آباؤهم، أو شعرا تمثيليا ينبو عنه ذوقهم، والفرس إنما أثروا بشيء من معانيهم وخيالاتهم؛ لأنهم هم الذين انتقلوا للعربية ولم تنتقل العربية إليهم، وإذ كان اليونان والرومان لم ينتقلوا إلى العربية كما أسلفنا لم يكن أثرهم فيهم كبيرا.

وسبب آخر دعا إلى تأثرهم بالفارسية أكثر من اليونانية؛ ذلك أن دولة الفرس ذابت في المملكة العربية، وكانت حياة الفرس الاجتماعية تحت أعين العرب يعرفون عنها الكثير، فاستطاعوا أن يتذوقوا شيئا من أدبهم؛ أما الحياة اليونانية فكانت بعيدة كل البعد عن معيشة العرب، ولم تكن تحت أعينهم لينظروها: آلهة تخالف كل المخالفة تعاليم دينهم، ونظم سياسية واجتماعية لا عهد لهم بها، وأنواع من اللهو لم يألفوها، والأدب كما علمت إنما هو صورة منعكسة للمعيشة الاجتماعية، فكان لزاما ألا يتذوق العرب الأدب اليوناني ويتأثروا به.

ولا يفوتنا - مع هذا - أن نشير إلى أشياء ثلاثة يونانية كان لها أثر في الأدب العربي: (الأول):

كلمات أخذها العرب من اليونانية كالقسطاس (الميزان) والسجنجل (المرآة) والبطاقة (الرقعة) والقسطل (الغبار) والقنطار والبطريق والترياق والنقرس والقولنج (مرضان)، ورووا «أن عليا رضي الله عنه سأل شريحا مسألة فأجابه، فقال له: قالون: أصبت بالرومية»

3

إلى غير ذلك من الألفاظ. (الثاني):

ما كان من أثر في الشعر لشعراء النصرانية في الإسلام، أمثال الأخطل والقطامي، وحتى هؤلاء أثر النصرانية في شعرهم قليل، حتى يقول: «الأب لامانس» نفسه: «إن أثر النصرانية في ديوان الأخطل أثر ضعيف، ونصرانيته نصرانية سطحية، ككل العقائد الدينية بين البدو». (الثالث):

وهو أكثرها تأثيرا الحكم اليونانية، وهذا النوع عني به السريانيون من قبل العرب، فنقلوا منه عن اليونانية الشيء الكثير، ثم أخذه العرب لما كان يتفق وذوقهم الأدبي، فنقل إلى العرب حكم نسبت لسقراط وأفلاطون وأرسطو وأمثالهم، بعضها تصح نسبتها إليهم، وبعضها ليست من أقوالهم عزيت إليهم؛ كالذي رووا عن أفلاطون أنه قال : «إذا أقبلت الدولة خدمت الشهوات العقول، وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات»، وقال: «من فضيلة العلم أنك لا تستطيع أن يخدمك فيه أحد، كما يخدمك في سائر الأشياء، وإنما تخدمه بنفسك، ولا يستطيع أحد أن يسلبه إياك كما يسلبك غيره من المقتنيات»، وقال: «لا يضبط الكثير من لا يضبط نفسه الواحدة» ... إلخ، وقال أرسطو: «اعلم أنه ليس شيء أصلح للناس من أولي الأمر إذا صلحوا، ولا أفسد لهم ولأنفسهم منهم إذا فسدوا؛ فالوالي من الرعية بمنزلة الروح من الجسد الذي لا حياة له إلا بها»، وقال: «لن يسود من يتبع العيوب الباطنة من إخوانه»، وقال سقراط: «النفس الخيرة مجتزئة بالقليل من الأدب؛ والنفس الشريرة لا ينجح فيها كثير من الأدب، لسوء معرسها»، وقال: «العقول مواهب والعلوم مكاسب».

صفحة غير معروفة