نعم إن جبانة الأهرام قد تركت أثرا عميقا في عقول الحكماء المصريين القدامى الذين ظهروا بعد انتهاء عهد الاتحاد الثاني. على أنه إذا كان قد وجد في نفس عصر الأهرام بعض الفتور في الاعتقاد بأن الإنسان بالقوة المادية المحضة يمكنه أن يتحكم في الخلود، فإن منظر تلك الخرائب الهائلة الآن قد أيقظ هذه الشكوك عند هؤلاء الحكماء وزاد فيها حتى جعلها شكا علنيا. وهذا التشكيك قد عبر عنه بعد ذلك العهد بزمن قصير في صورة أدبية ذات تأثير ظاهر.
ولا شك أن ذلك العصر قد بعد كل البعد عن عهد التسليم بالعقائد التقليدية دون معارضة فيها كما ورثت عن الآباء، فإن عقيدة التشكك تعني تجربة طويلة للعقائد الموروثة، وبحثا مستمرا فيما كان معترفا به حتى ذاك الوقت دون تفكير، ثم الشعور بالمقدرة الشخصية على الاعتقاد في الشيء أو إنكاره، وهي تعد خطوة مميزة إلى الأمام نحو نمو الوعي النفسي والوازع الشخصي.
على أن عقيدة التشكك هذه لا تنمو إلا بين أفراد الشعب الذي له مدنية ناضجة، ولا تنبت قط في الأحوال الفطرية؛ ولذلك فإن ذلك العصر، البالغ نحو خمسمائة سنة، والذي يمثل قمته أولئك المتشككون الذين جاءوا عقب سقوط الاتحاد الثاني، يعد عصرا هاما في تاريخ التقدم العقلي عند البشر. وقد عبر هؤلاء الحكماء عن حالتهم العقلية في مرثية كانت تغنى غالبا في نوع من الأعياد (يشبه عيد «كل الأرواح») كان يحتفل به في الجبانة أهالي الموتى وأقاربهم عند قبور أجدادهم الراحلين.
فلدينا روايتان لهذه الأنشودة غير كاملتين: إحداهما مدونة على بردية، والثانية كانت منقوشة على جدران أحد القبور بطيبة. غير أن النسخة التي دونت على البردية كانت منقولة عن نقوش قبر، بدليل أن عنوانها هكذا: «الأغنية التي في مثوى (مزار القبر) الملك «إنتف»
5
المرحوم وهي المواجهة للضارب على العود.»
وإنه لمن المدهش حقا أن نجد ملكا من ملوك الأسرة الحادية عشرة (أي حوالي سنة 2100ق.م) يأمر بنقش هذه الأنشودة فوق جدار مزار قبره، غير أنه يمكننا أن نستنتج من قراءة سطورها أن المغني عندما كان ينشد أغنيته كان يقف على مكان مرتفع يشرف منه على جبانة أهرام الدولة القديمة.
وها هي ذه الأنشودة:
ما أسعد هذا الأمير الطيب!
6
صفحة غير معروفة