أما التخلق بالوداعة التي طالما وصى بها «بتاح حتب» فقد أفاض في الحض عليها ذلك المسن حكيم «أهناسية»؛ إذ يقول مستحلفا ابنه: «لا تكونن فظا؛ لأن الشفقة محبوبة، وليكن أكبر أثر لك محبة الناس لك ... وسيحمد الناس الله على مكافأتك لهم مقدمين الشكر على عطفك وطالبين لك العافية في صلواتهم.»
وقد ذكرنا فيما مر أن «بتاح حتب» كان كثير الاهتمام بالمستقبل في هذه الدنيا بسبب تقلبات الحظ التي تحف بمركز الإنسان في هذه الحياة، والملك في تلك الوثيقة ينصح ابنه «مريكارع» بأن يفكر في المستقبل في الحياة الآخرة، فيقول له في ذلك: «إنك تعلم أن محكمة القضاة الذين يحاسبون المذنب لا يرحمون الشقي يوم مقاضاته ولا ساعة تنفيذ القانون ... ولا تتحدثن عن طول العمر؛ لأنهم (يعني القضاة) ينظرون إلى مدة الحياة كأنها ساعة؛ فإن الإنسان يبعث ثانية بعد الموت وتوضع أعماله بجانبه كالجبال. إن الخلود مثواه هناك (يعني في الآخرة) والغبي من لا يكترث لذلك، أما الإنسان الذي يصل إلى الآخرة دون أن يرتكب خطيئة فإنه سيثوى هناك ويمشي مرحا مثل الأرباب الخالدين (يعني الأبرار المتوفين).»
ويرى ذلك الملك المسن أن الحياة الصالحة فوق الأرض هي العماد الأعظم الذي ترتكز عليه الحياة الآخرة؛ إذ يقول في ذلك: «إن الروح تذهب إلى المكان الذي تعرفه، ولا تحيد في سيرها عن طريق أمسها.» ولا شك أنه يقصد بذلك طريقها المعتاد للخلق القيم الكريم. على أن القبر كان في نظره في الوقت نفسه من الأشياء الهامة، حيث يقول: «زين مثواك (يعني قبرك) الذي في الغرب، وجمل مكانك في الجبانة بصفتك رجلا مستقيما مقيما للعدالة (يعني ماعت)؛ لأن ذلك هو الشيء الذي تركن إليه قلوب أهل الاستقامة.»
ولما كان أهم أمر في حياة الإنسان هو علاقته بربه، سواء أكان ذلك في هذا العالم أم الحياة الآخرة، فإنه يقول في ذلك أيضا: «يمر الجيل إثر الجيل الآخر بين الناس والله العليم بالأخلاق، قد أخفى نفسه ... وهو الذي لا يعبأ بما تراه الأعين، فاجعل الإله يخدم بالصورة التي سوي فيها سواء أكانت من الأحجار الكريمة أم من النحاس، كالماء الذي يحل محله الماء؛ إذ لا يوجد مجرى ماء يرضى لنفسه أن يبقى مختفيا بل يكتسح السد الذي يخفيه.»
وهذا التصريح الهام الذي جاء على لسان رجل من رجال الفكر في مصر منذ أكثر من أربعة آلاف سنة مضت ليس إلا محاولة منه للتمييز بين الإله وبين صنم المعبد التقليدي الذي كان يظهر في احتفالات المعبد وتهتف له الجماهير، ولكن كينونة الإله - كما قال - كالماء الذي يكتسح السد أمامه، لا يمكن أن تبقى محبوسة في الصورة المحسوسة، وهو الشيء الذي عبر عنه بأنه «لا يعبأ بما تراه العيون»، على حين أن الإله الخفي العليم بالأخلاق قد أخفى نفسه فلا يمكن إدراكه كجسم من الماء يمتزج في جسم آخر مثله من الماء. على أنه من الصعب جدا أن يدرك الإنسان معنى أمثال هذه التشبيهات، وبخاصة في لغة فقيرة جدا في التعابير المعنوية.
ولكن من الواضح أن لدينا في تلك البردية سلسلة أفكار عن إله الشمس نجد فيها المفكر المصري القديم يقترب من عقيدة التوحيد؛
1
إذ نجد أنه يعترف بوجود طائفة من الآلهة يقومون مقام القضاة في عالم الآخرة، وبذلك يبتعد بعدا واضحا عن الاعتراف بوحدانية الإله، ولكنه من جهة أخرى كان يقترب جدا من الاعتراف بالتسلط الخلقي لإله واحد لدرجة أن كلمة إله صارت تدل في بعض المواضع - مع شيء من التناقض - على مدلولها الحقيقي، ونلاحظ زيادة الإمعان في صوغ هذه التأملات بصيغة التوحيد في الصورة الآتية التي صور فيها الحكيم الأهناسي الخالق الحاكم الرءوف، في خاتمة تأملاته؛ إذ يقول: «إن الله قد عني عناية حسنة برعيته، فقد خلق السماوات والأرض وفق رغبتهم، وأطفأ الظمأ بالماء، وخلق لهم الهواء حتى تحيا به أنوفهم، وهم صور منه خرجت من أعضائه، وهو يرتفع إلى السماء حسب رغبتهم، وخلق النبات والماشية والطير والسمك غذاء لهم، وقد ذبح أعداءه وعاقب أطفاله بسبب ما دبروه حينما عصوا أمره، وصنع النور حسب رغبتهم كي يسبح في السماء ليراهم، كذلك أحاطهم بسياج من حمايته، وهو يسمعهم عندما يكون، وجعل لهم حكاما وهم في الأرحام ليحموا ظهر الضعفاء منهم.»
والإشارة هنا إلى أن الإله ذبح أعداءه تنويه بأسطورة إله الشمس وعهد حكمه على الأرض بصفته فرعونا عليها، وذلك عندما تآمرت رعيته عليه فإنه اضطر أن يوقع بهم الهلاك، فنجد في تلك الأسطورة ناحية خلقية تدل على حرمان الإنسان من العطف الإلهي، وكذلك نتعرف فيها تعرفا تاما سيادة إله الشمس الخلقية. ومن الواضح أن ذهن الملك الأهناسي المسن اتجه إلى محاولة الموازنة بين فكرته السامية للحاجات الخلقية وبين التقاليد الموروثة الخاصة بقيمة الوسائل المادية؛ ولذلك يقول لابنه: «أقم آثارا باقية للإله؛ لأنها تجعل اسم صانعها يبقى، ودع المرء يعمل ما فيه صلاح روحه بتأدية الطهر الشهري وبأخذ النعلين الأبيضين وزيارة المعبد، وإماطة اللثام عن الرموز الدينية، والدخول في قدس الأقداس، وأكل الخبز في المعبد. وضاعف القربان، وأكثر من عدد الرغفان، وزد في القربان الدائم؛ لأن في ذلك خيرا لفاعله، واجعل آثارك فيه حسب ثروتك؛ لأن يوما
2
صفحة غير معروفة