والحقيقة أن هذه المشاهد قد صورت على أنها حوادث تنتظره في الحياة الأخروية، غير أن عناصر الحوادث والألوان التي صورت بها تلك الحياة مأخوذة من الحياة الدنيا والتجاريب الدنيوية، فمن ذلك أن أولئك الذي مر وصفهم بأنهم كانوا يلقون نعالهم وملابسهم ليرقصوا أمامه فرحا عند وصول الملك حينما يعبر النيل السماوي هم الآلهة، ولكنهم مثلوا طبعا كأنهم يفعلون في السماء ما اعتاد رعاياه فعله فوق وادي النيل الأرضي، وكذلك هم الآلهة الذين نراهم يجففون أعضاء فرعون عندما يستحم مع إله الشمس في «بحيرة البردي»، فهم هنا أيضا يفعلون لفرعون ما كان حجابه يفعلون له على الأرض.
ولكن بالرغم من أن هذه المتون العتيقة غاصة بمناظر الحياة الدنيوية التي نقلت عنها، فإنها في مجموعها تصور أرضا غير معروفة لنا تقريبا، فإنه عندما يحاول الإنسان ارتياد مجاهل هذه الأرض يحس كأنه يرود غابة فطرية شاسعة الأرجاء كأنها غياض مسحورة مفعمة بأشكال غريبة وأشباح مخيفة تتراءى كأنها تقطن في تيه لا منفذ فيه، فإننا نجد فيها كتابة عتيقة التهجية تضم في ثناياها كلمات ذات معنى غامض، قد يجوز أن يكون القارئ قد عرفها وهي مرتدية لباسها المعتاد الذي لبسته فيما بعد، وكذلك كانت تستعمل تلك الكلمات في مواقف ومعان غريبة عن القارئ الحديث غرابة تهجيتها.
ويوجد في هذه المتون مجموعة أخرى كبيرة من الكلمات البالغة حد الغرابة المخالفة لتلك الكلمات المعروفة المتنكرة، وأعني بذلك طائفة من الكلمات العتيقة المهجورة التي عاشت حياة طويلة دائرة في الاستعمال في دنيا قد محيت تماما وصارت نسيا منسيا، فهي بعد أن وخطها المشيب كانت كالعداء المنهوك القوى تترنح على مرأى منا مدة قصيرة في أقدم أفق معروف لدينا، فقد ظهرت فقط في هذه المتون العتيقة ثم اختفت اختفاء أبديا بعد عصر تلك المتون، ومن ثم لا نصادفها مرة ثانية في متون مصرية أخرى، فهي تكشف لنا في شيء من الإبهام عن دنيا من التفكير والكلام بادت من الوجود، ويعتبر عهدها آخر العصور العديدة التي لا تحصى، والتي مرت بها حياة الإنسان فيما قبل التاريخ حتى صار قاب قوسين أو أدنى من الدخول في العصر التاريخي. ولكن هذه الكلمات الغريبة التي وخطها الشيب، وهي البقية الباقية لنا من عصر منسي مهجور، استمرت مستعملة مدة جيل أو جيلين في متون الأهرام، وتستمر غرابتها بالنسبة إلينا عادة حتى يزول استعمالها نهائيا. وليس لدينا من الوسائل ما نعرف به معناها أو إرغامها على أن تبوح لنا بأسرارها أو عن الرسالة التي كانت تحملها في غضونها، وليس لدينا من فنون معرفة اللغات القديمة ما نحاول به إرغامها على كشف ما تكنه من الأسرار. ويوجد بجانب تلك الكلمات أيضا طائفة أخرى من التراكيب العويصة التي زاد في صعوبتها طبيعة ما تشير إليه من المعاني المبهمة الغامضة، فهي مفعمة بتلميحات عن حوادث أساطير ضاعت معالمها عنا، وعادات ومعاملات قد فات زمانها منذ عهد بعيد، وقوامها عناصر حياة وفكر وتجارب ضاعت معالمها كلها في بيداء المجهول التام.
ذكرنا فيما سلف أن الغاية المهمة من متون الأهرام هي في الأصل ضمان سعادة الملك في الحياة الأخروية؛ لذلك نجد أبرز شيء في هذه المتون الاحتجاج الملح، بل الاحتجاج الحماسي ضد الموت، ويمكن اعتبارها صورة لأقدم ثورة عظيمة قام بها الإنسان ضد الظلمة والسكون العظيمين اللذين لم يعد منهما أحد. وكلمة الموت لم تذكر قط في متون الأهرام إلا في صيغة النفي أو مستعملة للعدو، فترى التأكيد القاطع مرة بعد الأخرى أن المتوفى حي يرزق: «الملك تيتي لم يمت موتا، بل جاء معظما في الأفق»، «هيا أيها الملك «وناس»، إنك لم تسافر ميتا بل سافرت حيا، لقد سافرت لكي يمكنك أن تعيش، وإنك لم تسافر لكي تموت»، «إنك لن تموت، هذا الملك بيبي لن يموت»، «الملك بيبي لا يموت بسبب أي ملك ... ولا بسبب أي ميت. هل قلت إنه مات؟ إنه لن يموت، هذا الملك «بيبي» يعيش أبدا، عش! إنك لن تموت»، «وإذا رسوت [استعارة للموت] فإنك تحيا [ثانية]»، «هذا الملك «بيبي» قد فر من موته.»
وهكذا نجد تجنب ذكر الموت باستمرار في هذه المتون، وكثيرا ما تحتم صيغة نفي الموت بالتأكيد الآتي: «إنك تعيش، إنك تعيش، ارفع نفسك، إنك لن تموت فقم، ارفع نفسك» أو «ارفع نفسك أيها الملك بيبي السامي بين النجوم التي لا تفنى [وهي النجوم الثوابت]، إنك لن تفنى أبدا.» وإذا لم يكن بد من الإشارة إلى حقيقة الموت المرة فإنه يسمى «النزول من البحر» أو ربط حبال السفينة في المرساة كما سبق ذكر ذلك، أو كان يفضل في مثل هذه الحالة ذكر كلمة الحياة منفية، ولذلك كان يستحب قول: «ليس حيا» بدلا من النطق بالكلمة المشئومة. أو كانت هذه المتون القديمة تعيد إلى الذاكرة ذكريات حزينة لسعادة مفقودة قد تمتع بها الناس ذات مرة «قبل أن يأتي الموت ».
ومع أن أسمى موضوع في متون الأهرام كان الحياة؛ أي حياة الملك الأبدية، فإن هذه المتون كانت تتألف من مصادر متنوعة جدا، ولما كانت كل طريقة وكل نفوذ يستعمل للوصول للغرض المقصود (الحياة بعد الموت)، فإن الكهنة الذين وضعوا تلك المجموعة من الأدب القديم، والتي هي أقدم ما وصل إلينا للآن، ضمنوها كل أنواع التعاويذ القديمة التي كانت تعد في نظرهم مرعية مستجابة، أو التي وجدوا أنها تفيد لذلك الغرض.
ويمكن القول بأن متون الأهرام تحتوي بوجه خاص على ستة موضوعات: شعائر جنازية - وشعائر خاصة بالقرب المأتمية عند القبور - وتعاويذ سحرية - وشعائر قديمة خاصة بالعبادة - وأناشيد دينية قديمة - وأجزاء من أساطير قديمة - وصلوات وتضرعات لفائدة الملك المتوفى. وتقع هذه المتون في طبعتها الحديثة الآن في مجلدين من القطع الكبير يشتملان على القراءات والتوجيهات المختلفة لنصوصها، وهذان المجلدان يحتويان من المتون أكثر من ألف صفحة، وقد قسمها الناشر الأول إلى أربع عشرة وسبعمائة صيغة.
وإذا أمكننا الإشارة إلى متون الأهرام بصفة عامة - كما فعلنا - فلا يمكننا معرفة معانيها معرفة تامة، فإن ذلك يعد من أصعب الأمور، ولكن لحسن الحظ يمكن فهم شكل الأدب الذي تحويه هذه المتون واستساغته، فمن بين أقدم القطع الأدبية في هذه المتون الأناشيد الدينية، وهي عبارة عن تركيب شعري قديم بهيئة أبيات من الشعر الموزون المقفى ظاهر فيه التوازن بين كلماته ومعانيه. وقد نقل العبرانيون هذا التركيب الشعري إلى أدبهم بعد ذلك بألفي سنة، وهو التركيب المعروف لنا في «المزامير» باسم «توازن الأعضاء». ويرجع استعمال ذلك التركيب في متون الأهرام إلى الألف الرابعة ق.م، وعلى ذلك يعد وجوده في هذه المتون أقدم من وجوده في أية بقعة أخرى من العالم بمراحل بعيدة. والواقع أنه أقدم صورة أدبية بين جميع أنواع الأدب المعروف لدينا.
وهذا النوع من الأدب لا ينحصر استعماله في الأناشيد المذكورة فقط، بل يوجد كذلك في نبذ أخرى من متون الأهرام، ولكنها لم تصل هنالك إلى درجة الكمال الذي نلمسه في هذه الأناشيد.
وزيادة على ما ذكر من التركيب الشعري الذي يرتفع بهذه النبذ إلى مرتبة الأدب بالمعنى المعروف لدينا الآن؛ فإننا كثيرا ما نجد بعض كتابات مبعثرة تحمل في مظهرها صفات الأدب من الوجهة الفكرية واللغوية، فمثلا نجد أثرا دقيقا من مجال الخيال في أحد الأوصاف الكثيرة التي وردت عن بعث «أوزير»؛ إذ جاء فيه: «فك لفائفك إنها ليست لفائف، بل هي خصلات شعر «نفتيس».» و«نفتيس» هي الإلهة المنتحبة المنثنية على جسم أخيها المتوفى. فالكاهن القديم الذي كتب ذلك السطر قد رأى في اللفائف التي تلف الصورة الجامدة خصلات الشعر الغزيرة التي تتدلى من شعر الإلهة وتختلط باللفائف، ونجد كذلك قوة عنصرية في ذلك الخيال الوثاب الذي يلمح العواطف الودية لكل العالم فيجعل العناصر الطبيعية تشعر بالنازلة الرهيبة التي تتمثل في موت الملك، وفي حلوله بين آلهة السماء؛ إذ يقول المحزونون على الملك: «السماء تبكي من أجلك، والأرض تزلزل من أجلك.» ويقول الناس عندما يرونه في الخيال صاعدا إلى القبة السماوية: «السحب تظلم السماء - والنجوم تمطر الأرض - والأقواس [مجموعة النجوم] تترنح - وعظام كلاب جهنم ترتعد - والبوابون واجمون عندما يرون الملك «وناس» يشرق في شكل روح.»
صفحة غير معروفة