وهو يحمل في يده جمجمة «يورك»، فلا بد أنه فكر من أعماق نفسه عندما تأمل هؤلاء الأشهاد الصامتين.
ولا بد أن حالة الحفظ التامة المدهشة للأجساد البشرية التي وجد المصري عليها أجداده الذين كان يكشف عنهم عندما يقوم بحفر قبر جديد في ذاك الوقت، قد زادت اعتقاده في بقاء تلك الجثث البشرية إلى الأبد، وأيقظت في خياله صورا عظيمة في تفاصيلها عن عالم الأموات الذين رحلوا إلى الآخرة وعن حياتهم فيها.
وقد بدأ أقدم تلك الاعتقادات وأبسطها في زمن سحيق في القدم، حتى إنه لم يبق لها ذكر بين الآثار التي وصلت إلينا. على أن جبانات سكان وادي النيل فيما قبل التاريخ، وهي التي كشفت عنها وقامت فيها الحفائر منذ سنة 1894 ميلادية، تدل على أن الاعتقاد بالحياة الآخرة بعد الموت قد وصل إلى مرحلة متقدمة من الرقي، وقد حفرت آلاف من هذه القبور الواقعة على طول حافة وادي النيل الخصب مما يرجع تاريخ أقدمها وجودا بلا شك إلى الألف الخامسة قبل الميلاد، فكان يوجد الجسم البشري فيها راقدا في قاع حفرة لا يزيد عمقها على بضع أقدام وركبتاه مطويتان تجاه ذقنه، ويحيط به متاع ضئيل من أواني الفخار وآلات الظران والأسلحة الحجرية والأدوات المنزلية الأخرى، فضلا عن بعض الحلي الساذجة، وكان المفروض من وضع كل هذه الأشياء بجانبه هو بطبيعة الحال إعداد المتوفى لحياة أخرى مقبلة بعد الموت.
والمفروض أنه قد مضى ما لا يقل عن 1500 سنة من عهد المعتقدات القديمة الممثلة في أقدم هذه المدافن إلى وقت ظهور أقدم الوثائق المدونة التي وصلت إلينا، وهي الوثائق التي اعتمدنا عليها في أبحاثنا السابقة: تلك الوثائق التي تكشف لنا عن عقيدة دينية نامية لشعب يسمو بسرعة نحو حضارة مادية راقية؛ إذ يمكننا بما لدينا من المصادر المدونة أن نتتبع طريق هذا الرقي أثناء عهد الاتحاد الثاني الذي ابتدأ حوالي سنة 3000ق.م.
وإذا ذاك نجد أمامنا نتائج معقدة جاءت من اختلاط معتقدات كانت في أصلها مميزة، ثم اندمج بعضها بالبعض الآخر وتدوولت بذلك الشكل عدة قرون حتى صارت تشبه حزمة خيوط معقدة، مما يجعل حلها الآن صعبا جدا، بل يكاد يكون مستحيلا.
ويزيد تلك الصعوبات تعقيدا الصورة التي كان يتصورها المصري القديم لطبيعة الإنسان، فإنه كان يتصور أن شخصية الإنسان الحقيقية في الحياة تحتوي على الجسم المادي الظاهر وعلى الفهم الباطن، ومقره في اعتقاده هو «القلب» أو «الجوف»؛ وهما التعبيران الرئيسيان عن «العقل». وتحتوي هذه الشخصية أيضا على الجوهر الحيوي المحرك للجسم، ويقصد به «النفس» كما يلاحظ عند الكثير من الشعوب الأخرى. غير أن هذا الجوهر الحيوي لم يكن مميزا بشكل ظاهر عن «العقل»، وكان الاثنان يمثلان معا في رمز واحد هو طائر له رأس إنسان وذراعاه، ونجد مصورا في المناظر التي على القبور وعلى توابيت الموتى يرفرف على المومية، ويمد لأنفها بإحدى يديه صورة شراع منشور، وهذا الشراع هو الرمز المصري القديم «للهواء» أو «للنفس»، ويحمل في يده الأخرى علامة هيروغليفية ترمز للحياة،
3
والمصريون يسمون هذا الطائر الصغير الممثل برأس إنسان وجسم طائر «با».
ومما يدعو للدهشة أن المؤرخين فاتتهم الحقيقة الهامة؛ وهي أن «البا» تظهر للمرة الأولى في الوجود عند موت الإنسان، فقد التجأ القوم إلى كل أنواع الحيل والاحتفالات الدينية ليصبح المتوفى «با» عند موته.
ولما كان من الواضح أن المصري القديم مثلنا نحن معشر الأحياء لم يكن في مقدوره أن ينتزع شخصا آخر من جسمه، وذلك باعتبار الجسم وسيلة للإحساس، فإن المصريين لجئوا إلى استعمال حيل متقنة لتزويد الجسم الميت بكل وسائل الإحساس المختلفة بعد أن تنفصل عنه الروح (با) التي تضم كل هذه الإحساسات. وكان المصري القديم يعتقد أن صاحبه المتوفى موجود في داخل جسمه، أو على أقل تقدير لا يزال يملك جسما له مظهره الخارجي كما يملك كل منا جسمه، هذا إذا حاولنا أن نصور المتوفى بصورة ما في نظر المصري القديم، ومن ثم كان يظهر المتوفى عندما كان يمثل في الرسوم الجنازية كما كان يظهر في الحياة الدنيا. وكانت رغبة أقارب المتوفى مطابقة لهذه الأفكار؛ وهي أن يضمنوا بعث المتوفى بجسمه الذي كان عليه مرة أخرى. ومن أجل ذلك كان يقف الكاهن الجنازي مع أقارب المتوفى وأصدقائه عند قبره مجتمعين عند جسمه الهامد، ويخاطب المتوفى الراحل هكذا: «إن عظامك لن تفنى، ولحمك لن يمرض، وأعضاءك ليست بعيدة عنك.» ومهما تكن هذه الوسائل فعالة فإنها لم تكن تعتبر كافية؛ إذ كان من الضروري للجسم الهامد البعث مرة أخرى والعودة لاستعمال أعضائه وحواسه، وقد كان يتم ذلك البعث على يد إله معين
صفحة غير معروفة