156

فجر الضمير

تصانيف

ومع أنه من الواضح أن ذلك المذهب الجديد قد استقى وحيه من مدينة «هليوبوليس»، حتى إن الملك الذي اتخذ لنفسه منصب الكاهن الأعظم للإله «آتون» سمى نفسه «الناظر الأعظم»، وهو نفس لقب كاهن «هليوبوليس» العظيم، فإنه بالرغم من ذلك كان قد أزال معظم سقط المتاع القديم من الطقوس التي كانت تتألف منها ظواهر اللاهوت التقليدية، ولذلك نرانا نبحث عبثا في ذلك اللاهوت الجديد عن القوارب الشمسية، كما نرانا نبحث عبثا عن باقي الإضافات التي أدخلت فيما بعد على المذهب الشمسي مثل السياحة في كهوف الأموات السفلية، وغير ذلك، فإنها كلها قد محيت منه جملة.

فإذا كان الغرض الذي رمت إليه حركة مذهب «آتون» هو التوفيق بينها وبين كهنة «آمون» فإنها قد فشلت، وقام بينهم ألد الخصام، الذي اشتد وبلغ الذروة عندما صمم الملك على أن يتخذ من «آتون» إلها واحدا للإمبراطورية المصرية ويقضي على عبادة «آمون». وقد نتج عن ذلك المجهود الذي بذل لمحو كل الآثار الدالة على وجود «آمون» (ذلك الإله الحديث العهد) أن اتخذت إجراءات غاية في التطرف؛ إذ نجد أن الملك قد غير اسمه من «أمنحتب» (يعني «آمون» مرتاح أو راض) إلى «إخناتون» (يعني «آتون» راض)، وذلك الاسم الجديد الذي اتخذه الملك لنفسه هو ترجمة للاسم القديم للملك إلى ما يماثله في المعنى في مذهب «آتون»، هذا من جهة، وكان اسم «آمون» من الجهة الأخرى يمحى أينما وجد فوق آثار «طيبة» العظيمة، حتى إن الملك، تنفيذا لفكرته هذه، لم يحترم في ذلك حتى ولا اسم والده الملك «أمنحتب الثالث»، مع أن الأمر لم يكن قاصرا على محو اسم «آمون»، بل تعداه حتى إلى كلمة الآلهة (بصفتها جمع إله) فكانت تمحى أيضا أينما وجدت (كأنه رأى أن الجمع مظنة لتعدد الآلهة فمحاه)، وكذلك عوملت أسماء سائر الآلهة الآخرين معاملة «آمون» فكان مصيرها المحو.

وقد هجر الملك «إخناتون» طيبة برغم ما كان لها من السيادة والأبهة عندما وجد الارتباك فيها بالتقاليد اللاهوتية القديمة أكثر مما يحتمل، وأقام لنفسه حاضرة جديدة في منتصف الطريق بين «طيبة» والبحر تقريبا، في بقعة تعرف في وقتنا هذا باسم «تل العمارنة»، وسماها «أخيتاتون» (أفق آتون)، كما أسس في بلاد النوبة مدينة لآتون مشابهة لها، ومن المحتمل جدا أنه أقام مدينة أخرى لذلك الإله في آسيا، وبذلك صار لكل من الثلاثة الأجزاء العظيمة التي تتألف منها الدولة؛ وهي مصر والنوبة وسوريا، مقر لمذهب «آتون»، وقد بنيت كذلك معابد أخرى لآتون في أماكن مختلفة من مصر نفسها.

ولم يتم ذلك طبعا دون تأليف حزب قوي من رجال البلاط الملكي يمكن للملك به أن يناهض أولئك الكهنة المنبوذين، وبخاصة كهنة «آمون». وقد أثرت الفتنة التي نتجت عن ذلك الانقلاب بلا شك تأثيرا خطيرا في قوة البيت المالك؛ إذ كان حزب ذلك البلاط الذي نما إذ ذاك في ظل «إخناتون» يعمل معه متضامنين على نشر ذلك المذهب الديني الجديد، الذي يصح أن تعد قصته أروع الفصول وأكثرها إمتاعا في تاريخ الشرق القديم، يدلنا على ذلك ما بقي من نقوشه على جدران تلك المقابر التي نحتها الملك في الصخر لأشراف رجاله قبالة الجبال المنخفضة التي تقع في الهضبة الشرقية القائمة خلف تلك المدينة الجديدة. والواقع أننا مدينون لمقابر مثل هؤلاء من أعوان الملك بمعلوماتنا عن مشتملات تلك التعاليم الهامة التي كانت تنشر في تلك الآونة، وهي تحتوي على سلسلة أناشيد في مدح إله الشمس، كما تحتوي على مديح إله الشمس والملك بالتبادل. وهذه التعاليم تمدنا على الأقل بلمحة عن عالم الفكر الجديد، الذي نشاهد فيه ذلك الملك الشاب وأعوانه رافعين أعينهم نحو السماء محاولين بذلك إدراك مجالي الذات الإلهية في بهائها الذي لا حد لقوته ولا نهاية، وهي الإلهية التي لم يعد سلطانها منحصرا في وادي النيل، بل امتد بين جميع البشر وفي العالم كله.

ولا يمكننا الآن أن نأتي بشيء عن هذه السانحة أفصح من تلك الأناشيد، التي تقص علينا بنفسها شيئا عن تلك التعاليم، وأطول أنشودة بينها وأهمها هي الآتية:

4

بهاء «آتون» وقوته العالمية تشرق وتضيء

أنت تبزغ بجمالك في أفق السماء

أنت يا «آتون» الحي الذي كنت في أزلية الحياة

فحينما كنت تطلع في الأفق الشرقي

صفحة غير معروفة