7
هكذا يتبين أن للفهم «بنية مسبقة»
pre-structure
معينة تفعل فعلها في كل تأويل، ويتجلى هذا بوضوح شديد في تحليل «هيدجر» للبنى المسبقة الثلاث للفهم. (3-1) استحالة التأويل بدون فروض مسبقة
بهذا التوكيد على البنية المسبقة للفهم يتجاوز «هيدجر» النموذج القديم للموقف التفسيري - نموذج الذات والموضوع - ويثير في الحقيقة تساؤلات وشكوكا خطيرة حول صواب هذا النموذج الذي يصف التأويل وفقا لعلاقة الذات-الموضوع، كذلك يلقي ظلالا من الشك حول ما يمكن أن يعنيه «التأويل الموضوعي» أو التأويل «بدون فروض مسبقة»، يطرح «هيدجر» هذه المسألة بوضوح ويقول بصريح العبارة: «التأويل ليس على الإطلاق فهما بلا فروض مسبقة لشيء ما معطى مقدما.»
إن محاولة الوصول إلى تأويل مبرأ من أي تحيز أو فرض مسبق هي محاولة عابثة لأنها تمضي في حقيقة الأمر ضد الطريقة التي يتم بها الفهم، إن ما يظهر من «الشيء» أو «الموضوع»
Object
هو ما يسمح له المرء أن يظهر، وهو أمر يتوقف على فروضه المسبقة ومنظومته اللغوية، ومن السذاجة أن نفترض أن ما هو «هناك حقا» هو أمر «واضح بذاته»، بل إن تعريف ما نفترض وضوحه الذاتي هو نفسه شيء يقوم على حشد غير مرئي من الفروض المسبقة، تلك الفروض الحاضرة العتيدة في كل بناء تأويلي يشيده المؤول الذي يظن نفسه «موضوعيا» وبريئا من الفروض المسبقة، لقد أماط «هيدجر» اللثام عن هذا الحشد من الفروض المسبقة القائمة والمندسة في كل تأويل ممكن، وذلك في تحليله لعملية الفهم.
يعني ذلك في التفسير الأدبي مثلا أن أنزه المفسرين لنص من الشعر الغنائي يطوي جوانحه، في حقيقة الأمر، على فروض مسبقة بدئية، بل إنه في مقارنته لنص من النصوص يكون قد سلم تسليما بأنه صنف معين من النصوص، صنف غنائي مثلا، ويكون قد هيأ نفسه في الوضع الذي يراه ملائما لمقاربة مثل هذا النص. إن لقاءه بالعمل ليس لقاء قائما في سياق ما خارج الزمان والمكان، وخارج أفقه الخاص من الخبرات والاهتمامات، بل هو لقاء في زمان معين ومكان محدد، هناك مثلا سبب وراء التفاته إلى هذا النص دون غيره، هكذا يتبين أن مقاربته للنص محفوفة بالتساؤلات والريب وليست انفتاحا محضا قائما في فراغ.
من الواجب إذن أن نتذكر أن البنية المسبقة للفهم ليست صفة تخص الوعي في مواجهة عالم معطى من الأصل؛ ولذا فإن هذه الطريقة من النظر من شأنها أن ترتد بنا إلى نفس النموذج الثنائي في التأويل - نموذج «الذات/الموضوع» - الذي تجاوزه تحليل «هيدجر» وتخطاه، بل إن البنية المسبقة تقوم في سياق العالم، ذلك العالم الذي يشمل الذات والموضوع بداءة، إن وصف «هيدجر» للفهم والتأويل هو وصف يضع الفهم والتأويل في موضع سابق على قسمة الذات والموضوع، فهو يشرح كيف تظهر الأشياء ذاتها وتتكشف من خلال المعنى والفهم والتأويل، وهو يشرح ما يمكن أن نسميه البناء الأنطولوجي للفهم.
صفحة غير معروفة