ليس قناعا نغطي به شطحا أيديولوجيا معينا بل هو ذو دلالة لا تختلف عن دلالة «الخلوص» في التحليل الرياضي الخالص أو في الهندسة الخالصة. (41)
من الواضح أنني لا أستطيع هنا أن أقدم أكثر من هذا الأنالوجي المفيد: فبدون ممارسة حقيقية وعمل مضن لا يمكن لأحد أن يحصل على فكرة كاملة عينية عما تكونه الرياضيات البحتة أو عن غزارة الاستبصارات التي تقدمها الرياضيات البحتة، كذلك يلزم المرء نفس الصنف من العمل الذكي الذي لا يغني عنه أي توصيف عام إذا شاء أن يفهم علم الفينومينولوجيا على الحقيقة، أما عن أهمية العمل فهو ظاهر للعين يدل عليه الموقع الفريد الذي تحتله الفينومينولوجيا بالنسبة للفلسفة من جهة وعلم النفس من جهة أخرى، إن الأهمية القصوى للفينومينولوجيا الخالصة في تأسيس السيكولوجيا على أرض صلبة هي شيء واضح منذ البداية، فإذا كان كل شعور خاضعا لقوانين ضرورية بنفس الطريقة التي يخضع بها الواقع المكاني لقوانين الرياضيات، فإن هذه القوانين الضرورية ستكون بالغة الأهمية في دراسة حقائق الحياة الشعورية للكائنات البشرية وللحيوانات العجماء. (42)
أما عن أهمية الفينومينولوجيا الخالصة بالنسبة للفلسفة فيكفي أن نشير إلى أن جميع المشكلات النظرية الخالصة، تلك المشكلات التي يشملها ما يسمى «نقد العقل»، العقل النظري والعقل العملي وملكة الحكم، هي مشكلات متعلقة تماما بالترابط الضروري القائم بين الموضوعات النظرية والعملية والقيمية من جهة والوعي الذي تحايثه وتتأسس في باطنه من جهة أخرى، وبميسورنا أن نبرهن على أن المشكلات النظرية الخالصة لا يمكن أن تصاغ بصرامة علمية ثم تحل في ترابطها المنهجي إلا على صعيد الوعي الخالص فينومينولوجيا وداخل إطار فينومينولوجيا خالصة.
فإن كان لنقد العقل ولجميع المشكلات الخاصة به أن توضع على طريق العلم الدقيق، فإنما يكون ذلك بنوع من البحث يعتمد حدسيا على ما هو معطى فينومينولوجيا، وليس على تفكير من النوع الذي يؤلف مفاهيم قيمية، وهي لعبة يلعبها ببناءات منبتة تماما عن الحدس. (43)
إن الفلاسفة، كما يبدو الأمر في هذه الأيام، مولعون غاية الولع بتقديم النقد من فوق بدلا من دراسة الأشياء وفهمها من الداخل، وكثيرا ما يقفون من الفينومينولوجيا نفس الموقف الذي وقفه باركلي
Berkeley (الذي لا ننكر عبقريته كفيلسوف وعالم نفس) منذ قرنين من الزمان تجاه «حساب اللامتناهي»
Infinite Calculus
الذي كان علما ناشئا آنذاك، لقد ظن باركلي أنه استطاع أن يثبت، بنقده المنطقي الحاد والسطحي رغم ذلك، أن هذا النوع من التحليل الرياضي هو شطح لا أساس له على الإطلاق، ولعب فارغ بتجريدات جوفاء، وليس هناك أدنى شك في أن علم الفينومينولوجيا، ذلك العلم الجديد الشديد الخصوبة، سوف يتغلب على كل عناد وكل بلادة، وسوف ينمو نموا هائلا، كما فعل حساب اللامتناهي الذي كان غريبا على أهل عصره، وكما فعل علم الفيزياء الدقيق، في مواجهة الفلسفة الطبيعية الرائعة الغموض لعصر النهضة، منذ ظهور جاليليو.
إدموند هسرل
المحاضرة الافتتاحية في فرايبورج 1917م
صفحة غير معروفة