سنتوقف - إذن - عن الحكم على وجود الطبيعة المادية، ووجود كل ما هو جسم، بما فيه وجود جسمي، أي جسم الذات المدركة. (32)
يترتب على ذلك أننا سنتوقف - أيضا - عن الحكم على كل خبرة سيكولوجية، فما دمنا قد امتنعنا تماما عن اعتبار الطبيعة والأشياء الجسمية كحقائق معطاة، فإن افتراض أي عملية شعورية من أي نوع كشيء له صلة جسمية أو كحدث يحدث في الطبيعة هو افتراض يزول من تلقاء نفسه. (33) «ماذا يتبقى لنا؟»
ما الذي يبقى بعد أن يتم هذا الاستبعاد المنهجي لكل الوقائع الموضوعية؟ الجواب واضح، فبعد أن أقصينا كل واقع اختباري وحيدناه وضربنا عنه صفحا، فما يزال لدينا، وبدون أدنى شك، كل ظواهر الخبرة، ويصدق هذا أيضا على العالم الموضوعي برمته، لقد امتنعنا عن الحكم على وجود العالم الموضوعي، كما لو أننا قد «وضعناه بين قوسين»، فالذي يبقى لنا هو جميع ظواهر العالم، تلك الظواهر التي تدرك بالتأمل كما هي في ذاتها على نحو مطلق، ذلك أن كل مكونات الوعي هذه تظل في صميمها كما هي، وإنما من مكونات الوعي هذه يتم تشييد العالم. (34)
حين يكون اهتمامنا منصبا على المحتوى الظاهري للأشياء، فلن يضيرها البتة أن نعلق الحكم على وجودها الموضوعي، ولن ينال التأمل أي تأثير حين ينصب على رؤية الظواهر كما توجد وكما تتمثل في الوعي، بل عندها فقط في حقيقة الأمر يصبح التأمل نقيا وخالصا، وحتى الاعتقاد نفسه في الأشياء الموضوعية، وهو ما يميز الخبرة الساذجة والفكر الإمبيريقية، لن يضيع علينا، بل سيقى لنا كما هو في صميمه ووفقا للمعنى الكامن فيه، سنحلل خواصه المحايثة (المباطنة)، ونتعقب ترابطاته الممكنة، وبخاصة ما يتعلق بالأسس، وندرس بالتأمل المحض مراحل تكون الاستبصار، ما يبقى من المعنى المقصود خلال هذه المراحل، وما يضفيه اكتمال الحدس على هذا المعنى، وما تضفيه ما تسمى البنية من تغيير وإثراء، وأيما تقدم يحرز بواسطة ما يسمى في هذا المقام «بلوغ الحقيقة الموضوعية من خلال الاستبصار».
باتباع هذه الطريقة من الرد الفينومينولوجي (التوقف عن الاعتقاد في الأشياء الخارجية)، يمكن لأي نوع من الوعي النظري أو القيمي أو العملي أن يصبح موضوعا للبحث، ويمكن لجميع الحقائق الموضوعية التي ينطوي عليها أن تستكشف، وسوف ينظر البحث إلى هذه الحقائق الموضوعية باعتبارها، ببساطة، متلازمات
Correlates
للوعي، وسوف يكون التساؤل مقصورا على الظواهر (ما هي؟ وكيف هي؟) التي يمكن استخلاصها من العمليات الشعورية والترابطات المعنية، بهذه الطريقة يصبح كل شيء موضوعا للبحث الفينومينولوجي: الأشياء في الطبيعة، الأشخاص، الجماعات، الأشكال الاجتماعية، التكوينات الاجتماعية، التكوينات الشعرية والتشكيلية، وكل صنف من الأعمال الثقافية، ستخضع جميعا للبحث الفينومينولوجي، لا بوصفها حقائق موضوعية كما تعامل في العلوم الموضوعية المقابلة، بل بالنظر إلى الوعي الذي يشيد (من خلال توسط عدد مذهل من بنيات الوعي) هذه الحقائق الموضوعية للذات الواعية.
الوعي وما يعيه.
ها هو ما يتبقى - إذن - كمجال للتأمل الخالص فور قيامنا بعملية الرد الفينومينولوجي: التنوع اللانهائي لطرائق الوعي من جهة، وما لا نهاية له من المتلازمات القصدية من جهة أخرى ، إن ما يعصمنا من تجاوز هذا المجال هو الدليل الإرشادي الذي، بفضل منهج الرد الفينومينولوجي، يحصله كل اعتقاد موضوعي بمجرد بزوغه في الوعي، يهيب بنا هذا الدليل: ألا نشارك في هذا الاعتقاد، وألا ننزلق إلى الموقف العلمي الموضوعي، وأن نتمسك بالظاهرة الخالصة، ومن الجلي أن الدليل شامل من حيث المجال الذي نتوقف فيه عن قبول العلوم الموضوعية نفسها وعلم النفس واحد منها، وأن الدليل يستبدل بجميع العلوم ظواهر العلم، وهي في هذا الوضع الجديد تعد من بين الموضوعات الكبرى للفينومينولوجيا. (35)
ورغم ذلك، فما أن ندعي صدق أن قضية عن الأشياء الموضوعية، أي قضية على الإطلاق بما فيها الوقائع التي لا تقبل الشك، حتى نكون قد غادرنا أرض الفينومينولوجيا الخالصة؛ لأننا عندئذ نكون قد وقفنا على أرض موضوعية ما ونمارس السيكولوجيا أو أي علم موضوعي آخر بدلا من الفينومينولوجيا. (36)
صفحة غير معروفة