بم تتسم هذه الوحدة من المعنى؟ يجيب دلتاي عن هذا السؤال بإسهاب كبير، ويعد فهم ذلك الشيء المسمى «الخبرة» وفهم مكوناته أمرا أساسيا لفهم تأويلية دلتاي، أولا يجب ألا نفهم الخبرة على أنها «محتوى» فعل انعكاسي (تأملي) للوعي؛ لأنها عندئذ ستغدو شيئا نحن على وعي به، بل هي الفعل ذاته، إنها شيء نحيا فيه وخلاله، إنها الموقف نفسه الذي نتخذه تجاه الحياة ونعيش فيه، إنها الخبرة بما هي كذلك، الخبرة كما هي معطاة في المعنى قبل أي تأمل انعكاسي، وبوسع الخبرة أن تصبح فيما بعد موضوعا للتأمل، ولكنها عندئذ لا تعود خبرة مباشرة، بل موضوعا لفعل آخر من أفعال المواجهة، الخبرة إذن ليست موضوعا للوعي بقدر ما هي فعل للوعي، وينبغي ألا نتصورها كشيء يقف الوعي بإزائه ويعيه.
يعني ذلك أن الخبرة لا تدرك، ولا يمكن أن تدرك، نفسها بشكل مباشر؛ لأنها عندئذ ستكون فعلا انعكاسيا للوعي، والخبرة ليست «معطى» من معطيات الوعي، لأنها عندئذ ستكون واقفة بإزاء «ذات» بوصفها «موضوعا» مقدما إليها، الخبرة إذن توجد قبل انفصال «الذات-الموضوع»، ذلك الانفصال الذي يعد هو نفسه نموذجا يستخدمه الفكر الانعكاسي (التأملي)، الخبرة في حقيقة الأمر ليست متميزة عن الإدراك أو الفهم نفسه، وكلمة
Erlebnis
تمثل ذلك الاتصال المباشر بالحياة الذي يمكن أن نسميه «الخبرة المعاشة المباشرة».
من المتعين أن يكون التحليل الوصفي لهذا العالم الرواغ السابق على الفكر الانعكاسي هو الأساس لكل من الدراسات الإنسانية والعلوم الطبيعية، غير أنه مهم بصورة خاصة للدراسات الإنسانية؛ ذلك أن مقولات الفهم الإنساني والتأويلي نفسها يجب أن تستمد منه، هذا العالم من الوعي قبل الانعكاسي هو بالضبط ما سيدخر لكي تظفر به فينومينولوجيا هسرل وهيدجر، فبينما كان دلتاي يسعى لإنجاز مشروعه المنهجي بانسجام شديد مع فلسفة الحياة عنده، وفيما كان يفصل فصلا واضحا بين مجرد «التفكير» وبين «الحياة» (أو الخبرة) «كان في الحقيقة يؤسس القواعد لفينومينولوجيا القرن العشرين».
على أنه من الخطأ الفادح أن نتصور أن الخبرة تشير إلى ضرب من الواقع الذاتي لا أكثر؛ لأن الخبرة هي بالتحديد ذلك الواقع الذي يتمثل لي قبل أن تغدو الخبرة موضوعية (وتفترض من ثم انفصالا عن الذاتي)، هذه الوحدة الأولى هي ما يريد دلتاي أن يصوغ منه مقولات يرجى لها أن تضم (لا أن تفصل) الشعور والمعرفة والإرادة (وهي العناصر الملتئمة معا في الخبرة)، مقولات من قبيل «القيمة»، «المعنى»، «العلاقة» ... وقد لاقى دلتاي صعوبات كبيرة في صياغة هذه المقولات، غير أن المهمة بحد ذاتها هي على أعلى درجة من الأهمية، كان اختيار دلتاي محكوما بهدفه في بلوغ «معرفة ذات صواب موضوعي»، وهذا الهدف بالتحديد هو ما فرض على تفكيره حدودا وقيودا لا داعي لها، غير أننا لا يسعنا إلا الإعجاب بسعيه الدءوب من أجل مقولات تعبر عن «حرية الحياة وحرية التاريخ»، إن استبصاره المثمر إنما يكمن في رؤية الخبرة كمجال سابق على الذات والموضوع، مجال يقدم لنا العالم وخبرتنا بالعالم معا في آن، لقد رأى بوضوح فقر نموذج «الذات-الموضوع» كنموذج لالتقاء الإنسان بالعالم، وعاين بوضوح سطحية الفصل بين المشاعر والموضوعات، والفصل بين الإحساسات والفعل الكلي للفهم، يقول دلتاي بتهكم وازدراء: «نحن نعيش ونتحرك لا في عالم من الإحساسات بل في عالم من الموضوعات التي تقدم نفسها إلينا، لا في عالم من المشاعر بل في عالم من القيم والمعاني.» ومن الممتنع وغير المعقول أن نفصل إحساسات المرء ومشاعره عن السياق الكلي للعلاقات المتضامة معا في وحدة الخبرة.
ثمة استبصار خصب آخر «لدلتاي» وهو توكيده على الطبيعة الزمانية لسياق العلاقات المعطاة في الخبرة، فالخبرة ليست شيئا سكونيا، بل هي على العكس تميل في وحدة معناها إلى الامتداد لتضم تحت جناحها كلا من إعادة معايشة الماضي وتوقع المستقبل في السياق الكلي للمعنى، فنحن لا يمكن أن نتخيل المعنى إلا في ضوء ما نتوقع من المستقبل أن يكون، ولا بإمكان المعنى أن يتحرر من الاعتماد على المادة التي يقدمها الماضي، الماضي والمستقبل إذن يشكلان وحدة بنائية مع حاضر كل خبرة، وهذا السياق الزماني هو الأفق الذي لا مهرب منه والذي يتم داخله تأويل أي إدراك يحدث في الحاضر.
وقد أفاض «دلتاي» في إثبات أن زمانية الخبرة ليست شيئا يفرضه الوعي بطريقة انعكاسية (كما هو موقف الكانتيين، فالعقل لديهم هو الكيان النشط الذي يفرض وحدة على الإدراك)، وإنما الزمانية عند دلتاي هي شيء كامن في الخبرة ذاتها كما هي معطاة لنا، في هذا الصدد يمكن أن يسمى دلتاي «واقعيا» لا «مثاليا»: زمانية الخبرة عند دلتاي، كما ستكون عند هيدجر، مساوية في أوليتها للخبرة ذاتها، إنها ليست شيئا مضافا إلى الخبرة، إذا حاول المرء، على سبيل المثال، أن يستوعب مسار حياته الخاصة في فعل انعكاسي تأملي للوعي، فها هنا في هذه الممارسة الخاصة وحدة مرشدة لنا فيما نريد أن نبينه، فهي تكاد تكون صورة طبق الأصل للطريقة الفعلية التي تتمثل بها هذه الوحدة في الوعي على مستوى سابق على التأمل، يقول دلتاي واصفا محاولته الخاصة في هذا السبيل: «ماذا يحدث عندما تصبح «الخبرة» هي موضوع تأملي؟ إنني، على سبيل المثال، أرقد صاحيا بالليل، يؤرقني احتمال ألا أكمل في شيخوختي العمل الذي كنت بدأته، وأفكر ماذا أفعل، ثمة في هذه «الخبرة» مجموعة بنائية من العلاقات: يشكل الفهم الموضوعي للموقف أساسا لها، وفوق هذا الأساس يقوم توجه هو القلق حول الواقعة المدركة موضوعيا والسعي إلى تجاوز هذه الواقعة، كل ذلك يتمثل لي في السياق البنائي للواقعة، لقد قمت الآن بطبيعة الحال بتقديم الموقف للوعي الفاحص والمميز، وأبرزت العلاقات البنائية بوضوح وجلاء؛ لقد قمت ب «عزل» الموقف، غير أن كل ما قمت بطرحه هنا في حقيقة الأمر كامن سلفا في الخبرة ذاتها، وما فعلت غير أن سلطت عليه الضوء في هذا الفعل التأملي.»
إن «معنى» واقعة مدركة موضوعيا هو معطى مع الواقعة نفسها، والمعنى أمر زماني في صميمه؛ إذ يعرف في السياق الحياتي للمرء، يقول دلتاي إكمالا للفقرة السابقة إن هذا يعني شيئا ذ أهمية أساسية لكل دراسة للواقع الإنساني: «فالأجزاء المكونة لما يشكل رأينا في مسار حياتنا هي جميعا محتواة معا في الحياة ذاتها.» يمكننا أن نسمي ذلك بالزمانية أو التاريخية الداخلية، وهي غير مقحمة على الحياة بل هي باطنة فيها، يقرر دلتاي حقيقة عظيمة الأهمية للهرمنيوطيقا: وهي أن الخبرة «زمانية» في صميمها (أي تاريخية بأعمق معاني الكلمة)، ومن ثم فإن فهم الخبرة ينبغي أيضا أن يتم في مقولات فكرية زمانية (تاريخية) بنفس الدرجة.
بذلك يكون «دلتاي»، بتوكيده على زمانية الخبرة، قد وضع الأساس لكل المحاولات التي ستأتي بعده لتأكيد «تاريخية» الوجود في العالم، و«التاريخية» لا تعني التركيز على الماضي ولا تعني ضربا من السلفية الذهنية التي تجعل المرء مستعبدا لأفكار قديمة ميتة، فالتاريخية هي جوهريا إثبات زمانية الخبرة البشرية كما بينا لتونا، إنها تعني أننا لا نفهم الحاضر في حقيقة الأمر إلا في أفق الماضي والمستقبل، وهذه مسألة لا تعتمد على جهد واع، بل هي متأصلة في بنية الخبرة ذاتها، على أن إبراز هذه التاريخية وإخراجها إلى النور له نتائج تأويلية مؤكدة، فلم يعد بوسعنا أن نفترض لاتاريخية التأويل ونقنع بتحليل مصوغ في مقولات غريبة تماما عن تاريخية الخبرة الإنسانية، إنها تكشف بوضوح قاس أن الخبرة لا ينبغي فهمها في مقولات علمية، وأن مهمتنا واضحة جلية: إيجاد مقولات «تاريخية» تلائم طبيعة الخبرة المعاشة.
صفحة غير معروفة