فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر

عادل مصطفى ت. 1450 هجري
162

فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر

تصانيف

لقد نجح هيرش بامتياز في تحقيق ما يصبو إليه: وهو تشييد نسق واحد للوصول إلى المعاني القابلة للتحقيق الموضوعي، نجح ولكن بأية تكلفة؟ أولا: لكي يجعل المعنى محددا فقد ذهب إلى أن المعيار أو المحك يجب دائما أن يكون هو مقصد المؤلف، وثانيا: لكي يجعل هذا المعنى موضوعيا فلا بد أن يكون ثابتا وقابلا للإعادة، ومن ثم فقد ذهب إلى أن المعنى اللفظي، من حيث هو معنى، هو دائما وأبدا نفس الشيء، ولا شأن له بالمعنى بالنسبة لنا كما نجده في عملية الفهم، ولكن هل هذه الدعاوى مما يمكن قبوله؟ إن كثيرا منها يرتكز على فروض إبستمولوجية أرسطية بالدرجة الأساس، وعلى نظرية للمعنى يتوجب تبريرها هي ذاتها على أسس فلسفية.

ترى هل أسهمت حقا إعادة هيرش لتعريف الهرمنيوطيقا كمنطق للتحقيق في فهم المشكلة الهرمنيوطيقية في اتساعها وتعقدها؟ أو تراها بسطت المشكلة تبسيطا مفرطا؟ يرى إيبلنج

Ebeling

أن «موضوع الهرمنيوطيقا هو حدث الكلمة من حيث هو حدث»، وبذلك توغل الهرمنيوطيقا عميقا إلى السؤال عن الواقع وعن طبيعة مشاركتنا في اللغة، فماذا حدث لهذه الصيغة من المشكلة الهرمنيوطيقية؟ هي يمكن أن تترك لمجال آخر من مجالات البحث، مثل فلسفة اللغة؟ إن البساطة التي يتغافل بها هيرش عن متضمنات نظرية الفهم وفلسفة اللغة لتشير بأن التخصيص الضيق الذي يقترحه للهرمنيوطيقا يفتقر إلى الحكمة، وكم تتقلص مشكلة الهرمنيوطيقا وتضيق في مجال اللاهوت مثلا لو أنها قنعت بمجرد كشف المعنى اللفظي المحتمل للمؤلف! غير أن السؤال يطرح نفسه للتو عن طبيعة المعنى عند القديس بولس مثلا: هل كان القديس بولس يحاول أن يوصل فهما ذاتيا جديدا، أم ماذا؟ هل يمكن أن نجد معايير الحكم في هذا الأمر عند القديس بولس نفسه؟ وإذا زعمنا أن مثل هذه المعايير موجودة فعلا، فعلى أي أساس يمكننا أن نقرر ما إذا كانت هذه المعايير صحيحة؟ وها نحن قد عدنا أدراجنا إلى الحاضر مرة ثانية، وإن هذه النقطة بالتحديد هي التي تستوجب أن نبرزها ونؤكدها: فحتى المعايير الخاصة بالموضوعية والمعايير اللازمة للموضوعية هي مصنوعة من القماشة التاريخية للحاضر الذي نعيشه. ذلك بعض مما تحمله مشكلة الهرمنيوطيقا من تعقد، ذلك التعقد الذي يتجاهله التعريف الضيق للهرمنيوطيقا ويحثنا دون أن ندري على تجاهله.

هكذا يمضي النزاع في مجال الهرمنيوطيقا، فعلى أحد الجانبين هناك المدافعون عن الموضوعية والتحقق الذين ينظرون إلى الهرمنيوطيقا على أنها المصدر النظري لمعايير التحقيق، وعلى الجانب الآخر هناك الفينومينولوجيون الذين يرصدون حدث الفهم رصدا فينومينولوجيا، ويؤكدون على الطابع التاريخي لهذا «الحدث»، وبالتالي على قصور كل دعاوى «المعرفة الموضوعية» و«الصواب الموضوعي».

الفصل الحادي عشر

هابرماس: الهرمنيوطيقا النقدية

ما زال الإنسان يصنع الآلات ويطور الأدوات حتى أصبح هو ذاته آلة بين الآلات وأداة بين الأدوات، والأدهى بعد ذلك أنه صار عبدا لها يأتمر بأمرها ويدور في الفلك المدوخ الذي أفرغته، ويرزح في مجال القهر الجديد الذي أفرزته.

ظل اهتمام النظرية التأويلية خلال تطورها منذ شلايرماخر حتى جادامر منصبا على عبور (أو عدم عبور) الفجوة التاريخية والثقافية التي تفصل ما بين المفسر والنص، غير أن هذا التركيز من جانب النظرية قد يحمل جرثومة وهنها وذبولها؛ إذ يبدو أن الهرمنيوطيقا فور زوال الفجوة ستفقد مبرر وجودها ولن يعود لها دور، إلا أن الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورجين هابرماس

Jurgen Habermas (1929م) شق للهرمنيوطيقا طريقا جديدا سواء من حيث النظرية أو التطبيق. ينتمي هابرماس إلى الجيل الثاني من مفكري «معهد البحث الاجتماعي» أو ما يعرف بمدرسة فرانكفورت التي اشتهرت بالمزج بين الفكر الذي يستلهم الفلسفة الماركسية وبين المناهج الناشئة للعلوم الاجتماعية، وجعلت النقد غاية في ذاته، وانصرف اهتمامها إلى نقد الواقع الاجتماعي (السياسي-الاقتصادي)، أو نقد الفكر من حيث هو وثيق الصلة بمواقف اجتماعية معينة.

صفحة غير معروفة