وإلا انفرط فقه اللغة وتفسخ ولم يعد بالإمكان الحصول على نتائج موضوعية وصادقة، وهذا التمييز هو أمر أساسي ويتوقف عليه تماسك فقه اللغة وإمكان الموضوعية.
يقول هيرش إن غرض الهرمنيوطيقا ليس العثور على «دلالة» الفقرة بالنسبة لنا اليوم، بل تبيان معناها اللفظي نفسه، فالهرمنيوطيقا هي ذلك الفرع الفيلولوجي المختص بوضع القواعد التي يمكن بها استخلاص المعنى اللفظي للفقرة على نحو موضوعي محدد، ويرى هيرش أن جادامر وأتباع بلتمان قد ارتكبوا خطأ مضاعفا: فهم أولا قد انشغلوا بأمور لا صلة لها بالمهمة الحقيقية للهرمنيوطيقا، وهم فضلا عن ذلك قد تبنوا موقفا فلسفيا بلغ من الغلو والشطط إلى حد التشكيك في إمكان الوصول إلى معنى قابل للتحديد الموضوعي.
ويمضي هيرش في تبيان حجته فيقول إنه إذا كان معنى الفقرة (أي المعنى اللفظي) متغيرا لما عاد هناك معيار ثابت نعرف به ما إذا كان تفسير الفقرة يمضي على نحو صحيح، فما لم يميز المرء «الحذاء الزجاجي» للمعنى اللفظي الأصلي الذي كان يعنيه المؤلف، فلن يكون ثمة سبيل نميز به «سندريللا» من بقية الفتيات! يذكرنا ذلك باعتراض بتي على تأويلية جادامر: أن جادامر لا يقدم مبدءا معياريا راسخا يمكن أن نحدد به المعنى «الصحيح» للفقرة تحديدا صائبا، لقد جعل هيرش المعنى اللفظي الذي عناه المؤلف وقصده وانتواه هو المقياس وهو المحك وهو المعيار، بل إنه يمضي أبعد من ذلك فيصف المعنى اللفظي بأنه ثابت لا يتغير، وبأنه محدد وقابل للاستعادة، وفيما يلي فقرة مقتبسة من كتاب هيرش تلقي الضوء على منطقه الخاص في هذه المسألة وتكشف شيئا من النكهة الأرسطية في عرضه:
لذا عندما أقول بأن المعنى اللفظي شيء محدد فإنني أعني أنه كيان وأنه في هوية مع ذاته، وأعني فضلا عن ذلك أنه كيان يبقى دائما هو نفسه من لحظة إلى اللحظة التالية، أي إنه ثابت لا يتغير، والحق أن هذه المعايير متضمنة منذ البداية في مطلبنا الخاص بأن يكون المعنى اللفظي قابلا للاستعادة والتكرار وأن يكون دائما هو نفس الشيء في مختلف أفعال التأويل، المعنى اللفظي إذن هو ما هو وليس أي شيء آخر، وهو دائما نفس الشيء، هذا ما أعنيه بكلمة «التحديد» (الذي يتحلى به المعنى اللفظي).
5
الهرمنيوطيقا هنا تأخذ على عاتقها مهمة تزويدنا بتبرير نظري لهذا «التحديد» الذي يتحلى به موضوع التأويل، ومهمة تقديم معايير يمكن بها فهم ذلك المعنى الواحد الثابت المحدد، وبالطبع تشمل المهمة أيضا أن تقول لنا الهرمنيوطيقا على أي أساس يقع اختيارنا على معنى دون آخر، تلك هي مسألة «الصحة/الصواب»
validity . إن الهرمنيوطيقا التي لا تتعرض لقضية الصواب هي في نظر هيرش ليست هيرمنيوطيقا بل أي شيء آخر، وهو، شأنه في ذلك شأن بتي، يعترض على إغفال التيار الهيدجري في الهرمنيوطيقا أو تجنبه لمسألة «الصواب» التي بدونها لا يكون هناك، ببساطة، علم للتأويل ولا منهج للوصول إلى التأويلات الصحيحة.
أما الزعم القائل بأن الهرمنيوطيقا يجب أن تتعامل مع «دلالة» النص بالنسبة لنا اليوم ومع البنى أو الآليات التي يصبح بها المعنى اللفظي ذا دلالة خاصة بنا، فهو زعم مرفوض من جانب هيرش؛ لأنه يرى أن هذا الأمر يدخل في مجال النقد الأدبي ويقع داخل نطاق حقول أخرى غير الهرمنيوطيقا، فالهرمنيوطيقا بمعناها الصارم القديم هي «ذلك الجهد الفيلولوجي المتواضع الذي يرمي إلى الوقوف على المعنى الذي عناه المؤلف وقصد إليه»، هذا هو «الأساس السليم الأوحد للنقد» غير أنه ليس نقدا، إنه تأويل، ولا بأس بأن تفيد الهرمنيوطيقا من التحليل المنطقي والسيرة الذاتية وحتى حساب الاحتمالات (لتحديد التفسير الأكثر احتمالا من بين عديد من التفسيرات الممكنة) إلا أنها تظل في جوهرها «فقه لغة»، ورغم ذلك، وحتى مع هذا التقليص من نطاق الهرمنيوطيقا، فإنها تظل مبحثا أساسيا يعلن المبادئ العامة لتفسير أي وثيقة مكتوبة سواء كانت وثيقة قانونية أو دينية أو أدبية، أو حتى في فن الطهي!
والآن ماذا ترى في هذا التعريف للهرمنيوطيقا بأنها ذلك الجهد المتواضع، والأساسي رغم ذلك، لوضع القواعد التي تحدد المعنى اللفظي للفقرة؟ إن أكثر ما يلفت النظر فيه هو ما يحذفه ويتخلى عنه: الهرمنيوطيقا ليست معنية بالعملية الذاتية للفهم كما ينادي شلايرماخر ودلتاي، ولا بعقد صلة بين معنى مفهوم وبين الزمن الحاضر (نطاق النقد)، بل معنية بمشكلة الحكم أو الفصل فيما بين معان مفهومة أصلا من أجل الوقوف على التفسير الصحيح من بين تفسيرات أخرى ممكنة، إنها إرشاد لفقيه اللغة الذي عليه أن يحدد من بين احتمالات عديدة ما هو المعنى الأكثر احتمالا للفقرة.
مشكلة الهرمنيوطيقا إذن، من وجهة نظر هيرش، ليست مشكلة «ترجمة أو نقل» - أي اجتياز المسافة التاريخية التي تفصلنا مثلا عن «العهد الجديد» كيما تبزغ دلالة النص بالنسبة لنا اليوم - وإنما مشكلة الهرمنيوطيقا ببساطة هي المشكلة الفيولولجية الخاصة بتحديد المعنى اللفظي الذي يعنيه المؤلف، ومن المؤكد أن هيرش يعرف ويعترف أن وصل النص بالزمن الحاضر هو مشكلة حقيقية، غير أنه ينكر أن تكون هذه المشكلة داخلة في حقل الهرمنيوطيقا، وهو إذ يتخذ هذا الموقف فإن عليه بالطبع أن يؤكد أن المعنى اللفظي هو شيء مستقل وثابت ومحدد وبمقدور المرء أن يثبته ويبرهن عليه بيقين موضوعي، مثل هذا التصور عن المعنى اللفظي يرتكز على فروض فلسفية معينة بوسعنا أن نضع عليها أيدينا، وهي فروض «المذهب الواقعي» بالدرجة الأساس، أو ربما فروض هسرل في عمله المبكر «بحوث منطقية» والذي اقتبس منه هيرش قوله بأن الموضوع القصدي الواحد قد يكون محطا لأفعال قصدية عديدة مختلفة، ويبقى الموضوع في هذه الحالة هو نفس الموضوع، فكرة مستقلة أو ماهية منفصلة.
صفحة غير معروفة