وما هو إلا أن جلست إليها جلسة خفيفة حتى ألممت بشأنها كله، فأخذت أحدثها وصديقتها عن مستقبل حياتهما في هذه الجزيرة، وكيف تستطيعان أن تعيشا فيها سعيدتين هانئتين، فاقترحت عليهما أن تتخذا هذا الوادي مزرعة لهما تقتسمانها بينهما، ويعينهما على استصلاحها واستثمارها خادماهما الزنجيان، فأعجبهما مقترحي وعهدا إلي بتنفيذ ما أشرت به.
وكانت مساحة الوادي نحو عشرين فدانا، فقسمته قسمين، قسما أعلى، وقسما أدنى، أما الأول فيبتدئ من رءوس تلك الصخور العالية التي تكسوها السحب أرديتها الشفافة البيضاء، وتنبعث من خلالها أمواه نهر «اللاتينيه» وينتهي عند هذه الفجوة التي تراها أمامك، ويسمونها هنا «لامبرازير»؛ لأنها تشبه في شكلها فوهة المدفع. وتكثر في هذا القسم الصخور والوعور التي يتعذر السير فيها، إلا أنه كثير الأشجار والنخيل، حافل بالينابيع والغدران.
وأما الثاني فيبتدئ من هذا المكان منحدرا مع النهر الجاري بجانبه إلى نهاية الوادي، حيث ينحرف النهر بعد ذلك سائرا في رملة ميثاء بين جبلين شامخين إلى مصبه في البحر، وأرض هذا القسم سهلة لينة كثيرة الخضرة والأعشاب، إلا أن المستنقعات تكثر فيها في فصل الأمطار، وتكاد تتحجر تربتها أيام الجفاف، فتصبح كأنها أرض صخرية، فهما في الحقيقة قسمان متعادلان تتكافأ حسناتهما وسيئاتهما.
فلما فرغت من تهيئتهما اقترعت بين السيدتين عليهما، فكان القسم الأعلى نصيب هيلين «مدام دي لاتور»، والقسم الأدنى نصيب مرغريت، فرضيت كل منهما بنصيبها، إلا أنهما أبتا أن تفترقا في مسكنهما وعيشهما، فرأيت أن أنشئ لهما كوخين متجاورين تجدان فيهما من السعة والراحة لهما ولولديهما أكثر مما تجدان في الكوخ الواحد، وأن أجعل أحدهما في ذيل القسم الأول، وثانيهما في رأس القسم الثاني، فتسكن كل منهما أرضها، وكأنها تعيش مع صاحبتها في مسكن واحد، فأعجبتهما تلك الفكرة واغتبطتا بها، فاستعنت بالزنجيين على قطع الأحجار من الجبال، واجتلاب الأخشاب من الغابات، وصنع مواد البناء، وأنشأت لهما كوخين فسيحين يدور بهما سياج متين من الأغصان المتشابكة، وغرست حولهما خميلة من أشجار اللاتينية تظللهما وتقيهما وهج الشمس وغائلة المطر.
وهنا صمت الشيخ وأطرق، ثم رفع رأسه بعد قليل فإذا دمعة رقراقة تترجح في مقلتيه كلما حاولت أن تسيل أمسكها، واستمر في حديثه يقول: نعم بنيتهما وشيدتهما وأنشأت لهما السقوف والأبواب والكوى والنوافذ، وهأنذا أراهما الآن بين يدي ساقطين متهدمين، فلا أبواب ولا سقوف، ولا نوافذ ولا كوى، ولا قطان ولا سكان، وكأن الله - تعالى - أراد أن يستديم تلك الذكرى في نفسي فلا تبرح مخيلتي حتى تذهب معي إلى قبري، فأبقى على هذه البقايا الماثلة من جدرانهما وأحجارهما ليستثير مرآها شجني، ويهيج آلامي وأحزاني. أو كأن طوارق الحدثان التي لا تبالي أن تعصف بقصور الملوك وصروح الجبابرة وتذهب ببقاياها وآثارها إلى الأبد، قد وقفت وقفة الإجلال والإعظام أمام هذه الأكواخ الحقيرة المشعثة، فأبت أن تقضي عليها القضاء كله إجلالا لها، واحتراما لذكرى أصحابها الأوفياء المخلصين.
وبعد فلم أكد أفرغ من بناء الكوخين حتى شكت هيلين وجاءها المخاض فولدت طفلة جميلة كأنها النجم اللامع في سطوعه وإشراقه، وسألتني أن أكون «عرابها»، وأن أتولى تسميتها كما توليت تسمية ولد صديقتها، فأشرت على مرغريت أن تفعل؛ لأني أردت أن تكون لها أما ثانية، فسمتها «فرجيني»، وقالت لأمها سيهب الله ابنتك نعمة الفضيلة والعفة فتحيا حياة سعيدة هانئة، فإني ما فقدت السعادة إلا منذ اليوم الذي انحرفت فيه عن طريق الفضيلة.
الفصل الخامس
الحياة الطبيعية
نهضت هيلين من نفاسها بارئة نشطة، فأخذت هي وصديقتها مرغريت تعملان في أرضهما بمعونة الزنجي «دومينج»، وهو رجل كهل قد نيف على الخمسين من عمره، إلا أنه كان فتي الهمة والعزيمة، واسع الخبرة في شئون الزراعة الجبلية وأساليبها، فكان يغرس في كل أرض ما يناسبها من البذور والأغراس، ولا يفرق في ذلك بين القسمين ولا يمنح أحدهما من اهتمامه وعنايته أكثر مما يمنح الآخر، فزرع الذرة في التربة المتوسطة، والحنطة في الأرض الجيدة، والأرز في التربة السبخة، والقرع والقثاء وما أشبههما من النبات المتسلق حول الصخور وفوق رءوس الهضاب، وزرع البطاطا في التربة الجافة اليابسة، وشجيرات القطن في الربوات العالية، وقصب السكر في الأرض القوية المتينة، وغرس على ضفة النهر حول الكوخين أشجار الموز ذات الأوراق العريضة والأفياء الظليلة، ولم يفته أن يزرع لنفسه بضع شجيرات من التبغ يروح بتدخينها عن نفسه هموم دهره وآلامه.
وكان يذهب فوق ذلك إلى الغابات البعيدة والأحراش النائية لاحتطاب الحطب واجتلاب أخشاب الوقود، ويقضي جزءا عظيما من يومه في تمهيد الأرض وتذليلها، وتكسير الصخور ورصف الحصى، وإنشاء الممرات والمستدقات والجداول والأقنية، وكان يقوم بهذا العمل كله وحده راضيا مغتبطا لا أعينه عليه إلا بالرأي والإرشاد؛ لأنه كان يحب سيدتيه حبا جما، ويخلص لهما إخلاصا عظيما، وربما كان للغرام يد خفية في ذلك النشاط الغريب المنبعث في أنحاء نفسه - كما هو الشأن في أكثر حركات الناس وسكناتهم - فإنه كان مغتبطا كل الاغتباط بتلك الصلة التي نشأت بينه وبين الزنجية «ماري» في العمل، وبوده لو استحالت إلى صلة أخرى غيرها أدنى إلى نفسه وألصق بفؤاده، وقد تم له بعد عام واحد من اتصاله بها ما أراد، فقد سمحت له سيدتاه بالزواج منها، فبنى بها ليلة عيد ميلاد فرجيني، وسعد بجوارها سعادة لا تختلف في روحها وجوهرها عن السعادة التي يهنأ بها البيض المتمدينون.
صفحة غير معروفة