بسم الله الرحمن الرحيم
صفحة ٣
قال الشيخ الإمام (العالم الفاضل العارف) أبو المعالي المشرف بن المرجى بن إبراهيم المقدسي -رحمه الله (وعفا عنه) -: الحمد لله الذي خلق الأرض، واختار منها مواضع رفعها، وأماكن شرفها، فسماها بيوته الكرام، ومشاعره العظام، وجعلها معقلا لأولي النهى، ومعدنا لأئمة الهدى، وأمرنا بطهارتها، ونبهنا على زيارتها، وأذن أن ترفع، ويذكر (فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال) رجال، لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار، وفاوت بينها في التفضيل، وأبان لنا ذلك مفصلا في التنزيل، فجعل منها بيتا أسس على التقوى، وقبلة عظيمة لمن اهتدى، ومسجدا فضله بالنبي المصطفى، وقدسا عظمه بليلة الإسراء، فقال عز من قائل: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}. وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخلق أن يفضلوا شيئا من الأماكن عليها، ونهى أن تشد الرحال إلا إليها؛ كل ذلك ليضاعف لنا الحسنات، ويمحو عنا السيئات، فله الحمد على ما أسبغ علينا من نعمه، ونسأله المزيد من فضله وكرمه، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة مبرأة من النفاق، ومدخرة ليوم التلاق، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، عبد ارتضاه، ونبي اجتباه، وأرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون.
ثم إن سائلا سألني أن أذكر جميع من انتهى إلي من فضائل المسجد المقدس، الذي عظمه الله وشرفه، وجعله محشرا ومنشرا، وقبلة لجميع الأنبياء، ومعقلا لأهل الصفوة من الأولياء، وما خصه الله تعالى من المآثر الكريمة، والفضائل العظيمة، فأجبته إلى ما سأل، وذكرت من ذلك ما اتصل به من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه -رضي الله عنهم- والتابعين لهم بإحسان، وما استخرج من كتب الله المنزلة، وأتبعته طرفا من فضائل المساجد، وفضائل الشام، لأن هذا المسجد يدخل تحت عموم ذلك، وجعلته مبوبا؛ ليسهل على الطالب، ويخف على الراغب، معتمدا على الله تعالى في العون والتمهيد، طالبا منه التسهيل والتسديد، فهو الموفق للصواب، وعليه الاتكال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
صفحة ٤
1 - باب أي مسجد وضع أولا؟
أخبرنا الشيخ أبو الحسن علي بن موسى، المعروف بابن السمسار، بقراءتي عليه في داره بدمشق، أبنا أبو زيد محمد بن أحمد بن عبد الله الفقيه المروزي، قرئ عليه وأنا أسمع، قال: أبنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن بشر الفربري، قال: أبنا أبو عبد [الله] محمد بن إسماعيل البخاري، قال: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الأعمش، قال: حدثنا إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع أولا؟ قال: ((المسجد الحرام)). قلت:
صفحة ٥
ثم أي؟ قال: ((ثم المسجد الأقصى)). قلت: كم كان بينهما؟ قال: ((أربعون، ثم حيث أدركتك الصلاة فصل، والأرض لك مسجدا وطهورا)).
2 - باب أن الله تعالى وصل مكة بالمدينة والمدية ببيت المقدس
صفحة ٦
قرأت على الشيخ أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسن المكتب، قلت له: حدثك أبو مسلم محمد بن أحمد بن علي الكاتب البغدادي، قال: ثنا أبو محمد يحيى بن تليد، قال: ثنا أحمد بن منصور بن سيار، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا ابن لهيعة، قال: حدثنا يزيد بن أبي حبيب، قال: ثنا عطاء بن أبي رباح، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن مكة بلد عظمه الله تعالى، وعظم حرمته، خلق الله تعالى مكة وحفها بالملائكة قبل أن يخلق شيئا من الأرض يومئذ كلها بألف عام، ثم وصلها بالمدينة، ووصل المدينة ببيت المقدس، ثم خلق الأرض كلها بعد ألف عام خلقا واحدا)).
صفحة ٧
3 - باب أن الله تعالى خلق مكة والمدينة وبيت المقدس من زبدة واحدة
أخبرنا الشيخ أبو الفرج عبد الله بن محمد بن يوسف، النحوي المراغي، بقراءتي عليه، قال: أبنا عيسى بن عبد الله بن عبد العزيز الموصلي، وقد أجازني هذا الموصلي جميع حديثه، وقرأت على الشيخ أبي الفرج عنه، قال: أبنا أبو الحسن علي بن جعفر الرازي، قال: ثنا محمد بن إبراهيم بن عيسى المقدسي، قال: حدثنا محمد بن النعمان بن بشير السقطي النيسابوري، قال: ثنا سليمان بن عبد الرحمن ابن بنت شرحبيل، قال: ثنا ابن عياش، عن سليمان التيمي، عن أبي عمرو الشيباني قال: قال علي -عليه السلام-:
صفحة ٨
كانت الأرض ماء، فبعث الله ريحا فمسحت الماء مسحا، فظهرت على الأرض زبدة، فقسمها الله أربع قطع، فخلق من القطعة الأولى مكة، والثانية المدينة، والثالثة بيت المقدس، والرابعة مسجد الكوفة.
4 - باب ما جاء في أمر الله تعالى لداود -عليه السلام- ببناء
بيت المقدس
صفحة ٩
أخبرنا أبو مسلم محمد [بن] عمر الأصفهاني بالبيت المقدس، قال: أبنا عمر بن الفضل بن المهاجر، قال: أبنا أبي، قال: أبنا الوليد بن حماد الرملي، قال: ثنا المسيب بن واضح، قال: أبنا ابن المبارك، عن عثمان [ابن] عطاء، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب قال: لما أمر الله تعالى داود عليه السلام أن يبني مسجد بيت المقدس، قال: يا رب وأين أبنيه؟ قال: حيث ترى الملك شاهرا بسيفه. قال: فرآه في ذلك المكان، فأخذ داود فأسس قواعده، ورفع حائطه، فلما ارتفع انهدم، فقال: يا داود إنما جعلتك خليفتي في أرضي على خلقي، لم أخذته من صاحبه بغير ثمن؟ إنه يبنيه رجل من ولدك.
فلما كان سليمان ساوم صاحب الأرض بها، فقال: بقنطار. فقال سليمان: قد استوجبتها. فقال له صاحب الأرض: هي خير أو ذاك؟ فقال: لا بل هي خير. قال: قد بدا لي. قال: أوليس قد أوجبتها؟ قال: بلى ولكن البائعان بالخيار ما لم يتفرقا. قال ابن المبارك: هذا أصل الخيار. قال: فلم يزل يزاده ويقول له مثل قوله الأول حتى استوجبها بسبع قناطير، فبناه سليمان -عليه السلام- حتى فرغ.
صفحة ١٠
أخبرنا الشيخ أبو صالح محمد بن عدي بن الفضل، بقراءتي عليه، أبنا أبو الحسن علي بن محمد بن صغير بن سليمان الجبريني، قال: حدثنا الحسن بن رشيق، قال: ثنا أبو علي الحسن بن حميد بن موسى العكي، قراءة عليه في المحرم سنة ست وسبعين ومائتين، قال: ثنا وثيمة بن موسى بن الفرات، قال: ثنا ابن إسحاق، صاحب المغازي، قال: قال أبو إلياس عن وهب والحسن جميعا: لما تاب الله على داود عليه السلام، وكان قد بنى مدائن كثيرة، وصلحت أمور بني إسرائيل، أحب أن يبني بيت المقدس وعلى قبة الصخرة في الموضع الذي قدسه الله تعالى في إيلياء، وكانت قد حسنت حال بني إسرائيل وملأوا الشام، وضاقت بهم فلسطين وما حولها، فأحب داود أن يعلم عددهم، فأمر بإحصائهم على أنسابهم وقبائلهم، فكثر عليهم، فلم يطيقوا إحصاءهم.
صفحة ١١
قال ابن إسحاق: فأوحى الله بعد ذلك إلى داود لما كثر طغيان بني إسرائيل: أني أقسمت بعزتي لأبتلينهم بالقحط سنتين، أو أسلط عليهم العدو شهرين، أو أسلط عليهم الطاعون ثلاثة أيام. فجمعهم داود، وخيرهم إحدى الثلاث، فقالوا: أنت نبينا، وأنت أنظر لنا من أنفسنا، فاختر لنا. فقال: أما الجوع فإنه بلاء فاضح، لا يصبر عليه أحد، وأما العدو والموت فإني أخيركم، فإن اخترتم تسليط العدو عليكم فلا بقية لكم، والموت بيد الله تعالى، تموتون بآجالكم، وفي بيوتكم، ففوضوا ذلك إلى الله تعالى، فهو أرحم بكم.
فاختار لهم الطاعون، وأمرهم أن يتجهزوا، ويلبسوا أكفانهم، ويخرجوا بنسائهم وإمائهم وأولادهم أمامهم، وهم خلفهم على صخرة بيت المقدس، والصعيد الذي بني عليه بيت المقدس، وهو يومئذ صعيد. فنادى: يا رب إنك أمرتنا بالصدقة، وأنت تحب المتصدقين، فتصدق علينا برحمتك، اللهم إنك أمرتنا أن نعتق الرقاب، وأنت تحب من يعتق الرقاب، فنسألك برحمتك أن تعتقنا اليوم، اللهم وقد أمرتنا أن لا نرد السائل إذا وقف على أبوابنا، وأنت تحب من لا يرد السائل، فجئناك سائلين فلا تردنا. ثم خروا سجدا من حيث انفجر الصبح.
فسلط الله تعالى عليهم الطاعون إلى أن زالت الشمس، ثم رفعه عنهم، ثم أوحى الله تعالى إلى داود: ارفوا رءوسكم فقد شفعتك فيهم. فرفع داود رأسه، ثم نادى: ارفعوا رءوسكم، فرفعوا رءوسهم، وقد مات منهم مائة ألف ، وسبعون ألفا أصابهم الطاعون، وهم سجود، فنظروا إلى ملائكة يمشون بينهم، بأيديهم الخناجر، فرفع الله عنهم الطاعون، ثم عمد داود فارتقى الصخرة، وظل يومه إلى الليل رافعا يديه، يحدث لله شكرا.
صفحة ١٢
ثم إنه جمعهم بعد ذلك فخطبهم، وقال: إن الله تعالى قد رحمكم وعفا عنكم، فأحدثوا لله شكرا بقدر ما أبلاكم. قالوا: مرنا نفعل. قال: إني لا أعلم أمرا أبلغ في شكركم من بناء مسجد على [هذا] الصعيد الذي رحمكم الله تعالى عليه، فنبنيه مسجدا نعبد الله فيه، ونقدس فيه، أنتم ومن بعدكم. قالوا: نفعل. وسأل داود ربه فأذن له، فأقبلوا على بناء بيت المقدس.
وباشره داود بنفسه، ينقل الصخرة على عاتقه، ويضعه بيده في مواضعه، فلما رفع داود حائطه قامة رجل أوسط، أوحى الله إليه: أني قد قبلت توبتكم، ورضيت عملكم في هذا المسجد، فارفعوا أيديكم، فإني أريد أن أورثه رجلا يكون من بعدكم، أورثه علمه، وأجعل له اسمه وصوته وسناه ومجده وشرفه، وأريد أن أشرف هذا المسجد، وأرفع ذكره، وأقدسه وأطهره حتى يبلغ من طهره أنه لا يشرع فيه يد سفكت دما، وسأجعل يا داود ذلك على يدي رجل من صلبك، أسلمه من الدنيا، سميته سليمان؛ لأن هذه بقعة شرفتها وقدستها بآبائك، وخلقتها لقدسي، وباركت لأهلها في الزيت والقمح، لا تزال يدي عليها ممدودة بالبركة.
صفحة ١٣
أخبرنا أبو مسلم، قال: ثنا عمر، قال: أبنا أبي، قال: ثنا الوليد، قال: ثنا أحمد بن الحسين ومحمد بن حماد، قالا: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن داود - عليه السلام- رأى الملائكة سالين سيوفهم يعهدونها، ويرتفعون في سلم من ذهب من الصخرة إلى السماء الدنيا، فقال داود: هذا مكان ينبغي أن يبنى فيه مسجد لله ونكرمه. وأراد أن يأخذ في بنائه، فأوحى الله عز وجل إليه: هذا بيت مقدس، وإنك صبغت يدك في الدماء، ولست ببانيه، ولكن ابن لك بعدك، اسمه سليمان، أسلمه من الدماء. فلما ملك سليمان -عليه السلام- بناه وشرفه.
أبنا أبو مسلم، قال: أبنا عمر، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الوليد، قال: ثنا أبو عمير [بن] النحاس، قال: ثنا ضمرة، عن السيباني قال: أوحى الله إلى داود: إنك لن تتم بناء بيت المقدس. قال: أي رب، ولم؟ قال: لأنك غمزت يدك في الدماء. قال: أي رب، ولم يكن ذلك في طاعتك؟ قال: بلى، وإن كان.
صفحة ١٤
أخبرنا أبو الفرج، قال: ثنا عيسى، قال: ثنا علي، قال: ثنا أبو العباس محمد بن الحسن بن قتيبة العسقلاني، قال: ثنا أبو بكر محمد بن أيوب بن سويد الحميري، قال: ثنا أبي، قال: ثنا إبراهيم بن أبي عبلة، عن أبي الزاهرية، عن رافع بن عمير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تبارك وتعالى لداود: يا داود، ابن لي في الأرض بيتا. فبنى داود بيتا لنفسه مثل البيت الذي أمر به، فأوحى الله تعالى إليه: يا داود، أبنيت بيتك قبل بيتي؟ قال: رب هكذا قلت فيما قضيت: من ملك استأثر. وأخذ في بناء المسجد، يعني: مسجد بيت المقدس، فلما تم سور الحافظ سقط، ثم بناه، فلما تم السور سقط ثلاثا، فشكا ذلك إلى الله تبارك اسمه وتقدس وتعالى، فأوحى الله تعالى إليه: أنه لا يصلح أن تبني لي بيتا. (قال: يا رب، ولم؟ قال: لما جرت على يدك من الدماء). قال: يا رب، أو لم يكن ذلك في هواك ومحبتك؟ قال: بلى ولكنهم عبادي، وأنا أرحمهم. فشق ذلك على داود، فأوحى الله تعالى إليه: لا تحزن، فإني سأقضي بناءه على يدي ابنك سليمان. فلما مات داود أخذ سليمان في بنيانه، فلما قرب القرابين، وذبح الذبائح، وجمع بني إسرائيل، أوحى الله تعالى إليه: قد أرى سرورك ببنيان بيتي، فسلني أعطك. قال: أسألك ثلاث خصال: حكما يصادف حكمك، وملكا لا ينبغي لأحد من بعدي، ومن أتى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة، خرج من ذنوبه كهيئته يوم ولدته أمه)). قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما اثنتان فقد أعطيهما، وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة)).
صفحة ١٦
5 - باب أن سليمان -عليه السلام- بنى مسجد بيت المقدس على أساس قديم
أخبرنا أبو الفرج، قال: أبنا عيسى، قال: أبنا علي، قال: أبنا محمد بن إبراهيم، قال: ثنا محمد بن النعمان، قال: ثنا سليمان ومحمد بن حرب، قالا: ثنا ابن عياش، هو إسماعيل، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن شريح ابن عبيد، عن كعب قال: بنى سليمان بيت المقدس على أساس قديم، كما بنى إبراهيم -عليه السلام- الكعبة على أساس قديم، والأساس القديم الذي كان لبيت المقدس أسسه سام بن نوح، ثم بناه داود وسليمان -عليهما السلام- على ذلك الأساس.
صفحة ١٧
أخبرنا الشيخ أبو الحسن علي [بن] صالح بعسقلان، قال: أبنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد العكبري، قال: ثنا الشيخ أبو بكر أحمد ابن محمد بن الحسن بن الحكم بن أبي مريم الدينوري، قال: أبنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قال: قرأت في بعض الكتب: أن إسحاق النبي -عليه السلام- وصى إلى ابنه يعقوب -عليه السلام- أن لا ينكح امرأة من الكنعانيين، وأن ينكح من بنات خاله لابان بن ماهر بن أزرق، وكان مسكنه العدان، فتوجه إليه يعقوب، فأدركه الليل في بعض الطريق، فبات متوسدا حجرا، فرأى فيما يرى النائم: أن سلما منصوبا إلى باب من أبواب السماء عند رأسه، والملائكة تنزل فيه وتعرج منه، فأوحى الله تعالى إليه: أني إلهك وإله آبائك إبراهيم، وقد ورثتك هذه الأرض المقدسة، لك ولذريتك من بعدك، وباركت فيك وفيهم، وجعلت فيكم الكتاب والحكم والنبوة، ثم أنا معك أحفظك حتى أردك إلى هذا المكان، فأجعله بيتا تعبدني فيه أنت وذريتك. فهو بيت المقدس، وذلك قبل موسى وداود عليهما السلام.
صفحة ١٨
6 - باب ما قال الله لداود -عليه السلام- لما علا المحراب على
بيت المقدس
أخبرنا الشيخ أبو محمد الحسن بن محمد بن أحمد الغساني، بقراءتي عليه، قال: ثنا أبي، قال: ثنا محمد بن حاتم بن طيب بن غنم السمرقندي، قال: ثنا مسعود بن محمد بن مسعود الرملي، قال: ثنا عمران بن هارون الصوفي، قال: ثنا ابن لهيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لما بنى داود -عليه السلام- بيت المقدس بنى المحراب أعلى من بنيان المسجد، فأوحى الله تعالى إليه: يا داود بنيت [بيتك] فوق بيتي، ولكن من ملك استأثر)).
7 - باب ما جاء في بنى سليمان -عليه السلام- لبيت المقدس
صفحة ١٩
أخبرنا أبو الفرج، قال: أبنا عيسى، قال: أبنا علي بن جعفر، قال: ثنا محمد بن إبراهيم، قال: ثنا محمد بن النعمان، قال: ثنا سليمان بن عبد الرحمن، قال: أبنا أبو عبد الملك الجزري قال: علم سليمان منطق الطير، وعلم منطق الهوام والبنيان والنمل، وكان له من النساء الحرائر سبعمائة، وثلاثمائة سرية، فلما خلا ملك سليمان لسنتين بدأ في بناء بيت المقدس، ولبث في بنائه أربع سنين، وكان عدد من يعمل [معه] في بناء بيت المقدس ثلاثين ألف رجل، عشرة آلاف يتراوحون في قطع الخشب، عليهم قطع الخشب في كل شهر عشرة آلاف، وكان عدة الذين يعملون في الحجارة سبعين ألف رجل، وكان عدة الذين يقومون عليهم ثلاثمائة أمين، فلما ابتناه وزينه كما أحب من الذهب والفضة والأبواب الموثقة، وسقائفه من العود الألنجوج، وأبوابه صنع له مائتي سكرة من الذهب، في كل سكرة عشرة أرطال، وأولج فيه تابوت موسى وهارون عليهما السلام. وأنزل الله تعالى عليه الغمام، وصلى سليمان -عليه السلام- فيه، ودعا ربه فقال: يا رب، أمرتني ببناء هذا البيت الشريف، يا رب، فلتكن عينك عليه الليل والنهار، وكل من جاءك يبتغي منك الفضل والمغفرة والنصر والتوبة والرزق فاستجب له من قريب أو بعيد. فاستجاب له ربه عز وجل، وقال: إني قد استجبت لك دعاءك، وغفرت لمن أتى هذا البيت لا يعنيه إلا الصلاة فيه.
أخبرني محمد بن عدي بن الفضل السمرقندي، بقراءتي عليه، قال: ثنا محمد بن علي بن محمد بن صغير، قال: ثنا الحسن بن رشيق، قال: ثنا الحسين بن حميد بن موسى العكي، قال: ثنا وثيمة بن موسى بن الفرات، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: قال أبو إلياس عن وهب، عن كعب قال: إن الله تعالى أوحى إلى سليمان: أن ابن بيت المقدس، فجمع حكماء الجن والإنس، وعفاريته وعظماء الشياطين، فجعل منهم فريقا يبنون، وفريقا يقطعون الصخر والعمد من معادن الرخام، وفريقا يغوصون في البحر، فيخرجون منه الدر والمرجان، الدرة منها مثل بيضة النعامة، ومثل بيض الدجاج، وأخذ في بناء المسجد فلم يثبت البناء، فأمر بهدمه، ثم حفر الأرض حتى بلغ الماء، فقال:
صفحة ٢٠
أسسوه على الماء، فألقوا فيه الحجارة، فكان الماء يلفظها، فدعا سليمان الحكماء الأحبار، ورأسهم آصف، فقال: أشيروا علي. فقال آصف، ومن قال منهم: إنا نرى أن تتخذ قلالا من نحاس، ثم تملأها حجارة، ثم تكتب [عليها] هذا الكتاب الذي في خاتمك، لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، ثم تلقي القلال في الماء، فيكون أساس البناء عليه. ففعل فثبتت القلال، فألصقوا الصخر والحجارة عليها، وبنى حتى ارتفع بناؤه، وفرق الشياطين في أنواع العمل، فدأبوا في عمله، وجعل فرقة منهم يقطعون معادن الياقوت والزمرد وألوان الجواهر، فجعل الشياطين صفا مرصوصا، ما بين معدن الرخام إلى حائط المسجد، فإذا قطعوا من المعادن حجرا أو أسطوانة تلقاه الأول منهم، ثم الذي يلي المعدن إلى الذي يليه، ثم الذي يليه، فيلقي بعضهم لبعض حتى ينتهي إلى المسجد، وجعل يقطع الرخام الأبيض منه، مثل بياض اللبن، من معدن يقال له: السامور، ليس بهذا السامور الذي بأيدي الناس، ولكن هذا به سمي، وإنما دلهم على [معدن] السامور عفريت من الشياطين، كان في جزيرة من جزائر البحر، فدلوا سليمان عليه، فأرسل إليه بطابع من حديد، وكان خاتمه يرسخ في الحديد والنحاس، فيطبع إلى الجن بالنحاس، وإلى الشياطين بالحديد، ولا تجيبه أقاصيهم إلا بذلك، وكان خاتما نزل عليه من السماء، حلقته بيضاء، وطابعه كالبرق، لا يستطيع أحد أن يملأ بصره منه، فلما [بعث] إلى العفريت فجاء به، قال: هل عندك من حيلة أقطع بها الصخر ، فإني أكره صوت الحديد في مسجدنا هذا وصريره، والذي أمرنا الله به من ذلك هو الوقار والسكينة. فقال العفريت: اتبع لي وكر عقاب، فإني لا أعلم في السماء طيرا أشد من العقاب، ولا أكثر منه حيلة، فوجدوا وكر عقاب، فغطى عليه ترسا من حديد غليظا، فجاءه العقاب فنفخه برجله؛ ليقطعه فلم يقدر عليه، فحلق في السماء متطلعا، فلبث يومه وليلته، ثم أقبل ومعه قطعة من السامور معترضا، فتفرقت له الشياطين حتى أخذوه منه، فأتوا به سليمان، فكان يقطع به الصخر.
وعمل سليمان بيت المقدس عملا لا يوصف، ولا يبلغ كنهه أحد، وزينه بالذهب والفضة والدر والياقوت والمرجان، وألوان الجواهر في سمائه وأرضه وأبوابه وجدرانه وأركانه، شيئا لم ير مثله، ولم يعلم يومئذ في الأرض موضع مال أعظم منه، ولا عرض من عروض الدنيا أكثر منه، فتسامعت الخلائق به وشهرته، فكان نصب أعينهم، ولكنهم لم يكونوا يرمونه مع سليمان عليه السلام، ولا يحدثون به أنفسهم. فلما رفع سليمان يده من البناء بعد فراغه وإحكامه، جمع الناس وأخبرهم أنه مسجد لله عز وجل، وهو أمره ببنائه، وأن كل شيء فيه لله تعالى، من انتقصه أو شيئا منه فقد خان الله عز وجل، وأن داود عهد إلى ذلك من قبل، وأوصى بذلك من بعده.
صفحة ٢٢
فلما انتهى عمله وفرغ منه أمر فاتخذ طعاما، وجمع الناس، ولم ير قط جمعا أكثر منه، ولا طعاما أكثر منه، ثم أمر بالقربان، فقربت لله تعالى قبل أن يطلع الناس، فجعل القربان في رحبة المسجد، وميز ثورين وأوقفهما قريبا من الصخرة، [ثم قام على الصخرة] فقال: اللهم أنت وهبت لي هذا الملك منا منك، وطولا علي وعلى والدي من قبلي، وأنت ابتدأتني وإياهم بالنعم والكرامة، وجعلته حكما بين عبادك، وخليفة في أرضك، وجعلتني وارثه من بعده، وخليفته في قومه، وأنت الذي خصصتني بولاية مسجدك هذا، وأكرمتني به قبل أن تخلقني، فلك الحمد على ذلك، والعز والطول، اللهم وأسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال: أن لا يدخل إليه مذنب لا يعمده إلا لطلب التوبة أن تقبل منه توبته، وتتوب عليه وتغفر له، ولا يدخل إليه خائف لا يعمده إلا لطلب الأمن أن تؤمنه من خوفه، وتغفر له ذنبه، ولا يدخل إليه سقيم لم يعمده إلا لطلب الشفاء أن تشفي سقمه، وتغفر له ذنبه، ولا يدخل إليه مقحوط لم يعمده إلا لطلب الاستسقاء أن تسقي بلاده، وأن [لا] تصرف بصرك عمن دخله حتى يخرج منه، اللهم إن أجبت دعوتي، وأعطيتني مسألتي، فاجعل علامة ذلك أن تتقبل قرباني. فنزلت نار من السماء فأخذت ما بين الأفقين، ثم امتدت عنقا فأخذت القربان، فصعدت [به] إلى السماء.
صفحة ٢٣
قال ابن إسحاق: وذكرا -يعني كعبا ووهبا-: أن داود -عليه السلام- أعد لبناء بيت المقدس مائة ألف بدرة ذهبا، وألف ألف بدرة ورقا. وثلاثمائة ألف دينار لطلي البيت، وذكر أن هذا مال لأنقى به المعادن.
أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا عمر، قال: أخبرنا أبي، قال: ثنا الوليد ابن حماد، أخبرنا أحمد بن الحسن ومحمد بن حماد، قالا: أبنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: أخبرني عبد الصمد، قال: سمعت وهب بن المنبه يقول: لما أراد سليمان أن يبني بيت المقدس، قال للشياطين: إن الله تعالى أمرني أن أبني بيتا لا يقطع فيه حجر بحديدة. قال الشياطين: لا يقدر على هذا إلا شيطان في البحر له مشربة يردها. قال: فانطلقوا إلى مشربته فأخرجوا ماءها، واجعلوا مكانها خمرا. فجاء يشرب فوجد ريحا فلم يشرب، فلما اشتد ظمؤه جاء فشرب، فأخذ، فبينا هو في الطريق إذا هم برجل يبيع الثوم بالبصل فضحك، ثم مر بامرأة تتكهن لقوم فضحك، فلما انتهى إلى سليمان أخبر بضحكه فسأله، فقال: مررت برجل يبيع الدواء بالداء، ومررت بامرأة تتكهن وتحتها كنز لا تعلم به. قال: فذكر له شأن البناء، فأمر أن يؤتى بقدر من نحاس لا يقلها النفر، فجعلوها على فروخ النسر، ففعلوا ذلك، فأقبل إليه فلم يصل إلى فروخه، فعلا في جو السماء ثم تدلى، فأقبل بعود في منقاره فوضعه على القدر فانفلقت، فعمدوا إلى ذلك العود، فعملوا به الحجارة.
صفحة ٢٤