ـ[شرح المنظومة الحائية لابن أبي داود]ـ
مؤلف الأصل: أبو بكر بن أبي داود، عبد الله بن سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني (المتوفى: ٣١٦هـ)
الشارح: عبد الكريم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن حمد الخضير
دروس مفرغة من موقع الشيخ الخضير
[الكتاب مرقم آليا، رقم الجزء هو رقم الدرس - ٥ دروس]
صفحة غير معروفة
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح المنظومة الحائية لابن أبي داود (١)
الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ربنا اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والسامعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
حائية ابن أبي داود
قال ﵀:
تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تك بدعيًا لعلك تفلحُ
ودن بكتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله تنج وتربحُ
وقل غير مخلوق كلام مليكنا ... بذلك دان الأتقياء وأفصحوا
ولا تك في القرآن بالوقف قائلًا ... كما قال أتباع لجهم وأسجحوا
ولا تقل: القرآن خلقٌ قرأته ... فإن كلام الله باللفظ يوضح
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فمن المؤلفات والمصنفات في تقرير عقيدة السلف الصالح قد كثرت وتنوعت، فمنها المطول، ومنها المختصر، ومنها ما كتب بأسانيده، ومنها ما جرد عن الأسانيد، وكتب استنباطًا من النصوص، ومنها المتون المختصرة، ومنها الشروح والحواشي، ومنها ما جاء نظمًا، ومنها ما جاء نثرًا.
فمن المصنفات المختصرة المنظومة هذه الحائية المباركة الجامعة الماتعة النافعة، هذه الحائية محل عناية من أهل العلم منذ تأليفها إلى يومنا هذا.
ثبتت بطريق قطعي عن مؤلفها، بحيث رواها جمع من الآخذين عنه، وعنهم جموع إلى أن وصلت إلينا كما كُتبت.
هذه الحائية لأهميتها قرأها الشيوخ، وأقرؤوها الطلاب، وحفظوها وحفّظوها، وشرحوها بشروح مكتوبة، وشروح مسموعة، كثير من هذه الشروح لم يصل إلينا، وما وصل إلينا إلا شرح السفاريني (لوائح الأنوار) شرح السفاريني مطبوع في جزأين، وأيضًا من الشروح المكتوبة شرح للشيخ الدكتور عبد الرزاق البدر، وهو على اختصاره شرح جميل ونافع، وأسلوبه سهل، يعني يستفيد منه طالب العلم فائدة تامة، شيوخنا أيضًا لهم عناية بهذه الحائية، ولهم عليها شروح مسجلة موجودة ولله الحمد، استفاد منها طلاب العلم.
1 / 1
هذه الحائية في ثلاثة وثلاثين بيتًا، وهناك مزيد عليها من أبيات كأنها لبعض ...
هذا يقول: في مقدمة الشيخ وممن شرحها ابن البناء، ثم قال: وشروحاتهم لا أعلم لها وجودًا، رواها الآجري وصنف لها شرحًا، وأبو عبد الله بن بطة في الإبانة، وممن شرحها ابن البناء، وشروحاتهم لا أعلم لها وجودًا.
لكنه يقول في الطبعة الثانية يقول: إنه وقف قريبًا على شرح ابن البناء للحائية المخطوطة في المكتبة الظاهرية بدمشق، وأما شرح السفاريني واسمه: (لوائح الأنوار السَنية ولواقع الأفكار السُنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية في عقيدة أهل الآثار السلفية) هذا مطبوع يمكن من عشر سنوات.
وهذا الشرح أعني شرح الشيخ عبد الرزاق شرح جميل وواضح، وفيه فوائد، يعني شرح متعوب عليه، فحري بطالب العلم أن يُعنى به، وأما بالنسبة لشرحنا فأظن المدة ما تسمح بشرح مفصل، إنما نعلق على الأبيات بقدر ما يسمح به الوقت.
هذه الحائية لها نسخ كثيرة، أقول: لها نسخ كثيرة متداولة موجودة في بطون الموسوعات العلمية من كتب التراجم وكتب العقائد.
أما طباعتها فقد طُبعت في مطبعة الترقي بدمشق سنة (١٣٥٠هـ) يعني من ستة وسبعين سنة، ضمن مجموع يشمل: (نجاة الخلف في اعتقاد السلف) للشيخ عثمان بن أحمد النجدي و(عقيدة السفاريني) ثم عقيدة أبي بكر بن أبي داود، وطبعت أيضًا في نسخ ضمن مجموع يضم إضافة إلى الحائية عقيدة أبي الخطاب الكلوذاني، وعقيدة أبي الحسن الأشعري، وذم التأويل لابن قدامة، والتحف في مذاهب السلف للشوكاني، وفتوى الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية، هذه المجموعة مطبوعة في مطبعة المنار بمصر سنة (١٣٥١هـ) والطبعتان كلاهما فيه شيء من العناية والتحقيق والتصحيح والتصويب، وما فيها من فروق مع الطبعات الجديدة يبين في ..، كل بيت في وقته -إن شاء الله تعالى-.
1 / 2
هذه المنظومة ناظمها ابن أبي داود صاحب السنن، أبوه أبو داود صاحب السنن، وذُكر من إنصاف المحدثين ..، يذكر من إنصاف المحدثين أن أبا داود رمى ابنه بالكذب، وأن الإمام علي بن المديني ضعف أباه، هذا مما يذكر في إنصاف المحدثين، والإمام أبي بكر بن أبي داود، أما بالنسبة للكذب في الحديث فهو منه بريء، وأقوال الأئمة وتوثقيهم وتعديلهم له، وإمامته وعلمه وورعه كل هذا يرد هذه التهمة، ولا يمكن أن ينصرف قول أبي داود إن صح عنه في ولده إلى هذا، أما كونه يحمل على أنه بلى عليه الكذب مرة أو مرتين في كلامه العادي فمثل هذا أظن أنه لا يسلم منه أحد.
والكذب عند أهل السنة يشمل الخطأ، يشمل الوهم، إذا خالف الكلام الواقع سمي كذبًا، ولا يلزم أن يكون مع العمد، هذا على مذهب أهل السنة والجماعة، واشترط المعتزلة في الكذب أن يكون عن عمد، ولو كان الكذب وحقيقته تحتاج إلى قيد العمد لما جاء مقيدًا به في حديث من كذب: «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» مفهومه أنه يوجد كذب لا عن عمد، المقصود أنه يسمى كذب في العرف الشرعي، وعند أهل السنة والجماعة، المعتزلة أثبتوا الواسطة كذب لكنه لا عن عمد، ومنهم من يثبت كلام ليس بكذب ولا صدق، إن صح ما نقل عن أبي داود في ابنه يحمل على هذا، أنه بلى عليه مخالفة الواقع في حديثه العادي، وقد يكون عن غير قصد، ولا بد أن يقع من الإنسان شيء من التعريض يحتاج إليه، أو شيء في الأمور اليسيرة، أو في الأمور التي تختلف فيها وجهات النظر هل هي من الكذب المباح للحاجة إليه وترتب المصلحة أو لا؟ فمثل هذا يدرأ عنه هذه التهمة، وإلا فهو إمام محقق مصنف على طريقة السلف الصالح ومحدث، وله أسانيد، وسمع الحديث صغيرًا، وهو مولود سنة (٢٣٠هـ) وتوفي سنة (٣١٦هـ) في طبقة يعني هو تأخر عن النسائي قليلة، في طبقة ابن خزيمة والطبري ونظرائهم.
هذه المنظومة منظومة نافعة ماتعة، مثل ما ذكرنا محل عناية ومحط اهتمام أهل العلم، وطبعت قديمًا.
يقول ناظمها -رحمه الله تعالى-:
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 3
ابتدأ الناظم -رحمه الله تعالى- منظومته بالبسملة اقتداء بالقرآن الكريم الذي افتتح بها، وخلت المنظومة عن الحمدلة لشدة اختصارها؛ لأنها مختصرة جدًا، لا يمكن أن يوجد كتاب في العلم يخلو عن البسملة والحمدلة، فالذي يترجح أنها موجودة، ولو فقدت من بعض النسخ، إلا على رأي الشعبي الذي يقول: لا ينبغي أن تكتب البسملة في الشعر، البسملة لا ينبغي أن تكتب في الشعر؛ لأن الشعر والشعراء جاء ذمهم في القرآن والسنة ﴿وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾ [(٢٢٤) سورة الشعراء] وجاء في السنة في الحديث الصحيح: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرًا» ولذا يقول الشعبي: إن الشعر ينبغي أن يجرد عن البسملة، لكن ما دام الشعر والمقرر والمحقق عند أهل العلم أنه كلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح، فهذا من الكلام الحسن الذي يصدر بالبسملة والحمدلة، وهذا جرى عليه أهل العلم في نظمهم للعلوم كلها، يفتتحون بالبسملة والحمدلة، ومنهم من يقتصر على البسملة أو الحمدلة.
يقول -رحمه الله تعالى-:
"تمسك بحبل الله" تمسك أمر "بحبل الله" يعني حبل الله المتين الذي هو الكتاب القرآن، الذي تركه النبي ﵊ لأمته، وأخبر أنهم لن يضلوا ما داموا متمسكين به ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ [(١٠٣) سورة آل عمران] وأهل العلم يعنون بهذا الأمر الذي هو التمسك والاعتصام بالكتاب والسنة، وله أبواب في كتبهم، وقد صدر الناظم -رحمه الله تعالى- منظومته بالأمر به "تمسك بحبل الله" الذي هو القرآن.
"واتبع الهدى" الذي هو السنة، وجاء الأمر بالاعتصام بالكتاب والسنة، الاعتصام بالكتاب ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾ [(١٠٣) سورة آل عمران] وإن كان المراد به عند جمع من أهل العلم دينه الشامل للكتاب والسنة.
"تمسك بحبل الله" هذا أمر، فهل نقول: إن هذا الأمر إلزام أو التماس؟ إلزام من الله -جل وعلا-، وهذا يحكي ما جاء في الشرع من الأمر به.
تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... . . . . . . . . .
1 / 4
الهدى يراد به هنا السنة النبوية؛ ليكون الأمر بالاعتصام بهما معًا، ولن يضل من تمسك بالكتاب والسنة، وبالتمسك بهما العصمة من كل شر وفتنة.
وفي خطبه ﵊ ينبه النبي ﵊ كما جاء في صحيح مسلم من أنه ﵊ يقول في خطبته: «أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله» فينبه على المصدرين الأساسيين من مصادر التلقي في هذا الدين، ولا ثالث لهما يستقل بنفسه، أما القرآن مصدر مستقل، والسنة الأصل فيها أنها موضحة للقرآن، ومبينة له، وشارحة للقرآن على أن فيها من الأحكام ما لم يأتِ في القرآن، ففيها أحكام زائدة على ما في القرآن، وكل من القرآن والسنة وحي من عند الله -جل وعلا-، أما القرآن فظاهر، وأما السنة فدليل كونها وحي قوله -جل وعلا-: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ [(٣) سورة النجم] فالوقائع كثيرة يُسأل النبي ﵊ فيسكت، ثم ينزل عليه الوحي مما ليس في القرآن، فدل على أن السنة وحي من عند الله -جل وعلا-.
1 / 5
الهدى ينقسم إلى قسمين: نصوص جاءت بما يفيد بأن من الهدى ما لا يملكه إلا الله -جل وعلا-، ومنه ما يملكه النبي ﵊ ومن تبعه، وسار على هديه من دعاة الحق، فالهدى الخاص والهداية الخاصة بالله -جل وعلا- هي هداية التوفيق والقبول، وجاء نفيها عن أكمل الخلق ﵊ ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء﴾ [(٥٦) سورة القصص] وأما الهدى بمعنى الدلالة والإرشاد فهذا للنبي ﵊، وجاء فيه قول الله -جل وعلا-: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [(٥٢) سورة الشورى] ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [(٩) سورة الإسراء] والله -جل وعلا- بالمعنى الثاني الأول خاص به، والثاني أيضًا الله -جل وعلا- يهدي، بمعنى أنه يوفق، ويجعل النفس تقبل وتذعن، وأيضًا بالمعنى الثاني الله -جل وعلا- يهدي ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [(١٧) سورة فصلت] يعني دلالناهم وأرشدناهم، ومنه قول الله -جل وعلا-: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [(١٠) سورة البلد] طريق الحق وطريق الضلال، فمن الناس من يوفق هداية الدلالة والإرشاد للجميع، وقد جاءت في نصوص الكتاب والسنة على أتم وجه وأكمله، لكن من الناس من يوفق للهداية الأخرى، ومنهم من لا يوفق حسبما جرى به القلم السابق، والقضاء من الله -جل وعلا-، فالإنسان تكتب سعادته وشقاوته وهو في بطن أمه، إضافة إلى التقدير السابق الأزلي.
تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تك. . . . . . . . .
1 / 6
أصلها (ولا تكن) تحذف النون، وإلا يكفي التسكين (تكنْ) "ولا تك بدعيًا" بدعيًا البدعي المنسوب إلى البدعة، والبدعة في الأصل في اللغة: ما عمل على غير مثال سابق، هذه هي البدعة في اللغة، ما عُمل على غير مثال سابق، وفي الاصطلاح عند أهل العلم العمل الذي يتدين به مما لم يسبق له شرعية من كتاب ولا سنة، فالذي يتدين به يخرج أمور الحياة، فهذه لا تحتاج إلى أن يسبق لها شرعية، فالمستجدات والمستحدثات فيما يتعلق بأمور الدنيا لا تحتاج إلى نص في استعمالها، اللهم إلا إذا كانت مما يندرج فيما نهي عنه، إذا كانت مما يندرج فيما نهي عنه، وأما استعمالها فالأصل فيها الإباحة.
أمور الدين التي يُتعبد بها لا بد أن يسبق لها شرعية من كتاب الله وسنة رسوله ﵊، والنبي ﵊ بين لنا ووضح لنا أن كل بدعة ضلالة، فلا يستثنى مما يحدث في الدين مما لا يدل عليه دليل من كتاب ولا سنة من حد البدعة الداخل في عموم: «كل بدعة ضلالة» كل ما يحدث في الدين مما لم يسبق له شرعية في كتاب الله وسنة نبيه ﵊ فهو مذموم، داخل في العموم، ومن أهل العلم من قسم البدع إلى بدع حسنة وبدع سيئة، ومنهم من قسمها على الأحكام التكليفية الخمسة الأحكام التكليفية الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحظور، هذه الأحكام التكليفية الخمسة، فقالوا تبعًا لذلك: هناك بدع واجبة، وهناك بدع مستحبة، وهناك بدع مباحة، وبدع مكروهة، وبدع محرمة، أما البدع المكروهة والمحرمة هذا لا إشكال فيه، لكن هل نستطيع أن نقال: إن هناك بدعة مباحة، والنبي ﵊ يقول: «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» -نسأل الله السلامة والعافية-، والمراد صاحبها، وهل نستطيع بعد هذا أن نقول: إن هناك بدعة واجبة أو بدعة مستحبة؟ هذا تناقض، هذا جمع للنقيضين.
1 / 7
الشاطبي في الاعتصام رد هذا التقسيم وأبطله، وقوض دعائمه، وذكر أنه بدعة، أمر مخترع مبتدع، هذا التقسيم، قد يكون ..، قد يستدلون بأشياء: من سن سنة حسنة، ومن سن سنة سيئة، ويوجدون بعض الأمور التي وجدت بعد النبي ﵊، وتداولها المسلمون من غير نكير، فهي محدثة، ولم يرد نص فيها بخصوصها، وتداولتها الأمة من غير نكير، فقالوا: الرد على المخالفين هذا واجب، لكنه أمر مبتدع ومخترع، ومثلوا به للبدع الواجبة، بناء المدارس والأربطة قالوا: هذا مبتدع، لكنه مستحب، وأما البدع المباحة عندهم كالتوسعة في التوسع في أمور الدنيا من المأكولات والمشروبات والمركوبات والمساكن وغيرها، والبدع المكروهة والمحرمة مثلوا لها بأمثلة مقبولة.
لكن كيف يقول النبي ﵊: «كل بدعة ضلالة» ونقول: إن هناك بدعة واجبة، ونمثل لها بالرد على المخالفين؟ القرآن مملوء بالرد على المخالفين، والسنة الصحيحة الصريحة فيها شيء من ذلك فكيف يكون الأصل والعمدة على كتاب الله وسنة نبيه ﵊ ونقول بدعة؟ المخالف الذي يخالف الصراط المستقيم، وما جاء عن الله وعن رسوله، يريد أن ينشر الضلال والبدع والفساد بين المسلمين مثل هذا يرد عليه، وهذا من الجهاد باللسان، وقد جاء الأمر به. . . . . . . . .، وأمر النبي ﵊ حسان أن يرد على المشركين، فكيف بعد هذا أن يقال: إن هناك بدعة واجبة يمثل لها بالرد على المخالفين؟ الرد على المخالفين أصله في الكتاب والسنة فهو مندرج فيها، نعم آحاده كغيرها من المسائل يوجد الأصل في القرآن ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾ [(٣٨) سورة الأنعام] ويفرع على هذا الأصل ما يندرج تحته، وهذا منها.
البدع المستحبة بناء المدارس وبناء الأربطة هذا جاءت النصوص بما يدل على قاعدة شرعية مستمدة من النصوص، ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم المندوب إلا به فهو مندوب، والوسائل لها أحكام الغايات، وهكذا، هذه قواعد شرعية مستمدة من النصوص.
1 / 8
من أقوى ما يستدلون به ويتمسكون به قول عمر -رضي الله تعالى عنه- في صلاة التراويح: "نعمت البدعة" أن عمر -رضي الله تعالى عنه- جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح، ثم خرج إليهم وهم يصلون فأعجبه وضعهم بعد أن كانوا يصلون متفرقين، كل واحد يصلي لنفسه جمعهم، فقال: "نعمت البدعة، والتي ينامون عنها خير منها" يعني صلاة آخر الليل، فقالوا: ما دام عمر يقول: نعمت البدعة فدل على أن من البدع ما يمدح؛ لأن (نعم) حرف مدح، أو فعل على الخلاف بين أهل العلم، وكذلك ضدها (بئس) التي هي للذم، وما دام قال: "نعم" فهو يمدحها، وهو يمدح البدعة، إذًا في البدع ما يمدح، وهو المستحسن منها.
1 / 9
شيخ الإسلام ﵀ يقول: هذه بدعة لغوية، في اقتضاء الصراط، والشاطبي يقول: مجاز وليس بحقيقة، يعني ليس من باب استعمال اللفظ فيما وضع له، هذا ليس بحقيقة؛ لأنه لا يرى من البدع شيئًا يُمدح، بل شدد في هذا الباب ﵀، والتشديد في هذا الباب هو المطلوب؛ لأن التساهل فيه يجر إلى ما لا تحمد عقباه؛ لأن الإنسان إذا تساهل في مسألة دعته إلى ما بعدها، ومن نظر في تاريخ البدع والمبتدعة يجد أن الأصول التي انبثقت عنها هذه البدع أمور يسيرة، تجد خلاف يسير بين اثنين، بين شيخ وطالب من طلابه، بين زميل وزميله، أمور لا تكاد تذكر، ثم بعد ذلك كل واحد منهما ينتصر لنفسه، ثم يلزم أحدهما بلوازم فيلتزم هذه اللوازم، من باب أخذ العزة بالإثم، الانتصار للنفس، وعدم الانهزام أمام الخصم، يلتزم بهذه اللوازم، ثم يضطر أن يقول ما يؤيد به هذه اللوازم، فيشتد أمرها، ثم بعد ذلك يرد عليه مسألة ما حسب لها حساب، فإذا انتقضت، وأذعن بأنها منتقضة نقض أصله الذي بنى عليه، ثم يلتزم هذه المسألة لئلا ينتقض عليه أصله، إلى أن يصل إلى حد بحيث يتكلم بكلام لا يقوله المجانين فضلًا عن عامة الناس، فضلًا عن من ينتسب إلى العلم، فضلًا عن من له عناية بكتاب الله وسنة نبيه ﵊، السيئة تقول: أختي أختي، وإذا تساهل الإنسان في أول الأمر في كلمة أو في مسألة تساهل فيما بعدها، ولا يعني هذا أن الإنسان يشدد ويتشدد على نفسه أو على غيره من غير أصل من كتاب وسنة، لا، الدين يسر، لكن يبقى أن الدين عزيمة، الأصل فيه، لا يتساهل في دينه إلى أن ينسلخ منه ولا يشعر، إذا تساهل في مقدمات تساهل في نتائج، وهناك طوام تفوه بها رؤوس المبتدعة، ما وصلوا إليها إلا بعد مراحل، يعني من بيتصور أن هناك شخص يشهد أن لا إله إلا الله، ويقول: سبحان ربي الأسفل، لكن قال قبلها عشرات الكلمات إلى أن وصل إلى هذا الحد، ومن يبي يتصور أن شخص يقول: "ألا بذكر الله تزداد الذنوبُ" والله -جل وعلا- يقول: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [(٢٨) سورة الرعد] يقول: "وتنطمس البصائر والقلوبُ" -نسأل الله السلامة والعافية-.
1 / 10
فعلى الإنسان أن يحرص ويتمسك بما جاءه عن الله وعن رسوله، شيخ الإسلام حمل البدعة في قول عمر على البدعة اللغوية، وأما الشاطبي فقال: مجاز، والذي عندي أنه لا هذا ولا هذا؛ لماذا؟ أما المجاز فأمره معروف فلا مجاز على ما قررناه سابقًا، وأما قول شيخ الإسلام أنها بدعة لغوية لو طبقناها على التعريف اللغوي للبدعة وهي: ما عمل على غير مثال سابق لوجدنا أن التعريف لا ينطبق؛ لماذا؟ لأن النبي ﵊ صلاها بأصحابه ثلاث ليالٍ جماعة، صلى التراويح بأصحابه جماعة، ثم بعد ذلك لم يخرج إليهم خشية أن تفرض عليهم، لا نسخًا لها ولا رغبة عنها، فمشروعيتها باقية، فخشية أن تفرض عليهم في وقت التشريع، ثم بعد ذلك يعجزون عنها، لو فرضت احتمال أن يعجزون عنها، فالنبي ﵊ من شفقته ورأفته بأمته لم يخرج لهم في اليوم الرابع أو الثالث على اختلاف الروايات خشية أن تفرض عليهم، إذًا المشروعية باقية، فلها أصل سابق من فعله ﵊، فليست ببدعة لغوية فضلًا عن أن تكون بدعة شرعية، طيب إذا لم تكن بدعة لا لغوية ولا شرعية وعمر -رضي الله تعالى عنه- من أهل اللسان، يعني عربي، ويعي ما يقول، فماذا تكون؟ في علم البديع ما يسمى بالمشاكلة، يعني والمجانسة في التعبير، يطلق اللفظ ولا يراد به إلا مجرد مجانسة لفظ آخر حقيقة أو تقديرًا، ففي قول الله -جل وعلا-: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [(٤٠) سورة الشورى] السيئة الأولى حقيقة، الجناية حقيقة، جزاؤها ومعاقبة الجاني سيئة وإلا حسنة؟ حسنة، إذًا لماذا أطلق عليها سيئة؟ من باب المشاكلة والمجانسة في التعبير، وهذا موجود في النصوص، وفي لغة العرب.
قالوا: اقترح شيئًا نجد لك طبخه ... قلت: اطبخوا لي جبة وقميصًا
مشاكلة وإلا الجبة والقميص ما يمكن أن تطبخ، فأسلوب المشاكلة والمجانسة موجود في لغة العرب وفي النصوص، وعلى هذا يحمل قول عمر.
1 / 11
وعلماء البلاغة في البديع يقولون: حقيقة أو تقديرًا، يعني كأن قائلًا: "ابتدعت يا عمر" وقد يكون هناك من قال لعمر: ابتدعت يا عمر، فقال مجيبًا عن هذا المحقق أو المقدر: "نعمت البدعة" وكأن عمر وهو الخليفة الراشد الذي أمرنا باقتفاء سنته، الملهم المحدث كأنه توقع إن لم يكن واقع أن هناك من سيقول: ابتدعت يا عمر، ووجد من الشراح من يقول: البدعة بدعة ولو كانت من عمر، ولا شك أن هذا سوء أدب مع الخليفة الراشد، والحقيقة أن هذه ليست ببدعة؛ لأنها عملت على مثال سبق من فعله ﵊، وكونه ﷺ يتركها جماعة مع أصحابه خشية أن تفرض عليهم، وهذا من شفقته ﵊ بأمته.
"ولا تكُ بدعيًا" هنا نسب المبتدع إلى بدعته، فالنسبة إلى البدعة بدعي، والنسبة إلى السنة سني، وهما متقابلان، والابتداع والاختراع في الدين جاء ذمه والتشديد في شأنه في كلام أهل العلم كثير، والمبتدع له معاملة تليق به.
لا تلقَ مبتدعًا ولا متزندقًا ... إلا بعبسة مالك الغضبانِ
1 / 12
هذا القحطاني في نونيته، وكلام السلف وأئمة الإسلام في معاملة المبتدع كلام كثير في هذا الباب، والتشديد في النكير عليهم؛ لأن المخالفة في الابتداع أعظم بكثير من المخالفة في المعاصي التي سببها الشهوة، أما ما كانت المخالفة فيه بسبب الشبهة فأمره أشد، هذا الأصل، وإن كان يوجد فيما يسمى بالفروع أو المعاصي من الذنوب الكبائر ما هو أعظم من البدع الخفيفة عند أهل العلم، لكن الكلام إجمالًا البدع أشد من الذنوب عند أهل العلم، لكن يوجد من الذنوب ما هو أشد من بعض البدع، والتفصيل معروف، وأهل العلم يقررون أن توبة العاصي قريبة بخلاف المبتدع قليلة توبة المبتدع، ولا يعرض نفسه للتوبة؛ لأنه يرى أنه على حق، والشيطان يسول له ويملي له أنه هو الذي على الحق؛ لأن مقالته مبنية على شبهة، لوثت تفكيره، وغطت عقله عن سماع الحق، وعن قبول الحق والإذعان للحق، فمثل هذا توبته أبعد ممن أقدم على الذنب وهو يعرف أنه ذنب وأنه مخالف، أما المبتدع فهو يقدم على هذه المخالفة الشنيعة وهو يظن أنه محق، يحسب أنه يحسن صنعًا، فمثل هذا لا يتوب، نعم تاب جمع منهم، لكن المسألة أغلبية، وبعض الفرق عُرف واشتهر وشاع أن الأمل فيهم ضعيف، وبعضها الأمل فيه قوي، والذي في تقديري أن الذي أشاع هذه الإشاعة هم أهل الفرقة أنفسهم، شيوخهم ومراجعهم؛ لماذا؟ لئلا يتصدى أحد لدعوتهم، إذا كان ميئوس من رجوعهم وتوبتهم فدعوتهم إهدار للوقت وإضاعة بدون جدوى، فالذي يغلب على الظن أنها من تلقائهم، من شيوخهم المرتزِقة الذين يستفيدون ويكتسبون من وراء اعتناقهم لهذا المذهب، وإلا فالشواهد تدل على أنهم منهم من يتوب، نعم قليل الذي يتوب، لكن يوجد من يتوب، فالصد عن دعوتهم بهذه الطريقة مكر شيطاني، وخديعة شيطانية، وإلا ما على الإنسان إلا أن يبذل السبب، كونه يعود أو يرجع هذا ليس إليه، يبذل السبب ويحرص على هداية الناس، لكن النتائج بيد الله -جل وعلا- كما تقدم في الهداية ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [(٥٦) سورة القصص] نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
1 / 13
إيه، لكن لو طبقنا التعريف اللغوي للبدعة ما انطبق قبل هذا كله، هو توجيه شيخ الإسلام ﵀ توجيه الشيخ -رحمة الله عليه- على أنها بدعة لغوية، تعريف البدعة اللغوية: ما عمل على غير مثال سابق، وهذه عملت على مثال سابق، وسبق لها شرعية من السنة، فليست ببدعة شرعية، لا لغوية ولا شرعية ينتهي الإشكال، ويلزم من قوله ﵀ مع أنه إمام، أقول: يلزم من قوله أن هناك شيء يسمى بدعة لغوية، نعم، وهو ما تفضلت به، لكن ينفى من أصله باعتبار أن التعريف اللغوي لا ينطبق عليه، وعموم المشايخ يقولون بقول شيخ الإسلام من باب:
إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام
والإنسان وهو يعرض مثل هذا الكلام على خجل واستحياء؛ لأنه كلام إمام، ولا يعني أننا نستدرك عليه، أو نتطاول على علمه أو فضله لا، أبدًا، إنما نبين ما نراه حق، وكل يأخذ من قوله ويرد إلا النبي ﵊.
"ولا تك بدعيًا" يعني منتسبًا إلى البدعة "لعلك" (لعل) حرف ترجي "لعلك تفلحُ" إذا تمسكت بحبل الله، واتبعت الهدى، ولم تك مبتدعًا، ما قيمة حرف الترجي بعد هذا كله؟ يعني من تمسك بحبل الله، واتبع الهدى، ولم يكن بدعيًا، مفلح جزمًا وإلا لعله يفلح؟ نعم؟ يرجى له الفلاح، هو حرف ترجي، لكن من حصل منه ما ذُكر، تمسك بحبل الله، واتبع الهدى، ولم يكن بدعيًا، هو مفلح أو لعله يفلح يرجى له الفلاح؟ نعم؟ يعني مسك الجادة، استقام على الصراط المستقيم.
1 / 14
في مطلع سورة البقرة: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [(١ - ٤) سورة البقرة] إلى أن قال: ﴿أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [(٥) سورة البقرة] جزم، وهنا يقول: لعلك، هذا يخاطب من نصحه ووجهه إلى التمسك بالكتاب والسنة، يخاطب من نُصح، يقول: ومع ذلك إذا امتثلت هذا الكلام، وتمسكت بحبل الله، واتبعت الهدى، ولم تكن بدعيًا، لا تجزم في حكمك على نفسك بالفلاح، بل اتهم نفسك بالتقصير، مع هذا كله احرص على أن تتمسك بحبل الله، وتتبع الهدى الذي جاء عن النبي ﵊، وتجتنب البدع والمبتدعة ولعلك لأن الطريق طويل وشائك، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، لعلك، والإنسان في هذه الدنيا مثل الغريق يسأل الله النجاة، ويسأل الله -جل وعلا- حسن الخاتمة، والموافاة على الإسلام، ويكون هذا ديدنه، فلا يجزم لنفسه بشيء، بشيء فلا يجزم لنفسه بشيء، أما من استمسك بحبل الله واتبع الهدى ولم يكن من المبتدعة بحق هذا مجزوم بنجاته، لكن متى نعرف أنه تمسك بحق؟ من الذي يحكم له أنه تمسك بحق؟ القلوب ما يدرى، ما يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب، نحن نرجو للمحسن الثواب، ونخشى على المسيء، ولذا عقيدة أهل السنة في هذا الباب أنهم لا يجزمون لأحد بجنة ولا نار، لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار، لكنهم يرجون للمحسن، ويخافون على المسيء، وهنا قال: "لعلك" وهذا من باب الرجاء لهذا المتمسك بالكتاب والسنة، هذا من باب الرجاء لعله يفلح، والفلاح كلمة جامعة تجمع بين خيري الدنيا والآخرة، ولا يوجد في لغة العرب كلمة تقوم مقامها، ومن أراد الفلاح فليستقرئ نصوص الكتاب والسنة التي جاءت فيها هذه اللفظة التي رتبت على أوصاف فيحرص على تطبيق هذه الأوصاف، يعني يستقرئ ما جاء في الكتاب والسنة بهذا اللفظ، وهذا اللفظ مرتب على أوصاف ينظر في هذه الأوصاف، ويطبق هذه الأوصاف، فيحصل له
1 / 15
الفلاح -إن شاء الله تعالى- إن فعل ذلك مخلصًا لله -جل وعلا-، متبعًا في كذلك كله سنة نبيه ﵊، بمعنى أنه جاء بشروط القبول، فالفلاح كلمة وليس لها نظير مما يجمع خير الدنيا والآخرة، كما قالوا في النصيحة لا يوجد كلمة تغني عنها، من حيازة الحض للمنصوح له، لا توجد كلمة تقوم مقامها، فمثلًا لو استعرضنا الصفات التي في مطلع سورة البقرة، والصفات التي في أول سورة المؤمنون: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [(١) سورة المؤمنون] ... إلى آخره، ثم أخذ الإنسان يطبق هذه الأوصاف على نفسه يحرص على أن يطبق هذه الأوصاف يحصل له الفلاح -بإذن الله -جل وعلا-، ومع ذلك لا يجزم لنفسه ولا يُجزم له، إنما يغلب على الظن ويرجى له ذلك، وقلوب العباد كما جاء في الحديث بين إصبعين من أصابع الرحمن «وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها» نسأل الله السلامة والعافية، والثبات والتثبيت من الله -جل وعلا-، أمر يحتاج إلى أن يكون طلبه ديدنًا للمسلم، فحسن الخاتمة وسوء الخاتمة أمر مقلق للإنسان، والسلف يخافون من هذا الباب أشد الخوف، ولذلك ما يعرف عنهم أنهم حملوا المطلق على المقيد في الحديث: «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها» فهم كلهم خائفون وجلون من سوء العاقبة وسوء الخاتمة، وما في واحد منهم قال: نحمل المطلق على المقيد، فيما جاء من حديث صحيح: «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس» ما حملوا المطلق على المقيد؛ لماذا؟ لئلا يتراخون في العمل، وصدق الالتجاء إلى الله -جل وعلا-، وينبغي ألا يحملنا هذا على أن نيأس ونقنط من رحمة الله أبدًا، بل علينا أن نخاف وعلينا أن نرجو، وإذا كان إبراهيم ﵇، إمام الحنفاء الذي حطم الأصنام وكسّرها بيده، دعا الله -جل وعلا- بقوله: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ [(٣٥) سورة إبراهيم] ولذا يقول إبراهيم التيمي: من يأمن البلاء بعدك يا إبراهيم؟! الزيغ وارد -نسأل الله الثبات-، ابن القيم ﵀
1 / 16
تعالى- يقول:
والله ما خوفي الذنوب وإنها ... لعلى سبيل العفو والغفرانِ
لكن خوفي أن يزيغ القلب عن ... تحكيم هذا الوحي والقرآنِ
ورضًا بآراء الرجال وخرصها ... لا كان ذاك بمنة الرحمنِ
فهم يخافون أشد الخوف في هذا الباب، ولذا لا يرتاح الإنسان ما دامت روحه في جسده، ويخشى على نفسه من خدع الشيطان؛ لأن بعض الناس يتوسع في هذا الباب، وأنه بمجرد ما يؤدي هذه الصلوات، وقد يصوم مع الناس يظن أنه ضمن الجنة.
جاء في النصوص ما يدل على فضل الصلاة، وأنها تمحو الذنوب، وأنها كفارة لما بينهما، وأن رمضان إلى رمضان، هذا لا إشكال فيه، ولا عندنا فيه ريب ولا تردد، لكن الإنسان يتهم نفسه، ولن يؤتى إلا من قبل نفسه، فبما كسبت أيديكم، ولولا أن الله -جل وعلا- عفو غفور، رحيم رؤوف ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ﴾ [(٦١) سورة النحل] والله -جل وعلا- يعفو عن كثير، فالإنسان عليه أن يعمل، أن يعمل ويجتهد ويحرص ويجاهد نفسه على الإخلاص، ولا يكون في عمله حظ لأحد، ويتبع النبي ﵊، ولا يبتدع في دينه، فإذا تمسك بالكتاب والسنة على هذه الكيفية يُرجى أن يختم له بخير، ولذا أهل العلم مع خوفهم من سوء العاقبة يقررون أن الفواتح عنوان الخواتم، يعني الذي يغلب على الظن أن من سلك الجادة هذا يقررونه في الكلام النظري، لكن على أنفسهم هل يستطيع شخص مهما بلغ من العلم والعبادة أن يقول: خلاص الفواتح عنوان الخواتم يعني ما عليّ، مضمون أنه يموت على الاستقامة؟ ما هو بمضمون، ليس بمضمون.
الناظم -رحمه الله تعالى- ذكر ما ذكر في البيت الأول من التمسك بالقرآن واتباع الهدى الذي هو طريقة النبي ﵊ وسنته، أعقب ذلك بالمصدر الذي تؤخذ منه هذه العلوم عند أهل السنة علومهم وعقائدهم مأخوذة من الكتاب والسنة.
ودن بكتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله تنجو وتربحُ
(دن) هذا أمر من الديانة، يعني تدين وتعبد لله -جل وعلا- بكتاب الله "والسنن التي" يعني تعبد على ضوء الكتاب والسنة، يعني مثل ما قال: تمسك بالكتاب والسنة، تمسك بحبل الله والهدى التي هو السنن.
1 / 17
ودن بكتاب الله والسنن التي ... . . . . . . . . .
يعني تدين بما جاء في كتاب الله وسنة نبيه ﵊، ولا تأخذ دينك عن شيء سوى هذين المصدرين، وهما مصدرا التلقي عند أهل السنة، ولا ثالث لهما يستقل بنفسه، وأما ما يُذكر من المصادر من القياس والإجماع فكلها مردها إلى الكتاب والسنة، فالإجماع لا بد أن يستند على أصل من الكتاب أو السنة، والقياس لا بد أن يكون الأصل المقيس عليه له أصل في الكتاب أو السنة، ولا يوجد مصدر ثالث لا عقل كما يقول: المبتدعة، ولا منطق يزعمون أنه يعصم الرأي من الخطأ، ولا مقدمات كلامية ولا منطقية ترتب عليها نتائج وأحكام شرعية كما فعل أهل الكلام، فما عندنا إلا قال الله وقال رسوله.
العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة هم ألوا العرفانِ
وكلام الصحابة مبني على الكتاب والسنة، إذ لا يمكن أن يأتوا بشيء من كيسهم، فمرد التلقي إلى الكتاب والسنة.
ودن بكتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله. . . . . . . . .
1 / 18
السنن التي أتت وثبت عن الرسول ﵊، فلا يتدين بشيء ولو نسب إلى النبي ﵊ ما لم يكن ثابتًا عنه "أتت عن رسول الله" يعني ثبتت عنه ﵊ بطرق صحيحة أو حسنة "تنجو وتربحُ" يعني في هذا الباب المصدر الكتاب، وهذا أمر متفق عليه، والسنة، آحادها ومتواترها، كلها يجب العمل به في جميع أبواب الدين، يجب العمل بالسنة في جميع أبواب الدين، والسنة تشمل كل ما ثبت عن النبي ﵊، سواءً كان في الصحيحين أو في غيرهما، ولذا الفئة التي خرجت تزعم أنها تقتصر على القرآن، ويسمون أنفسهم القرآنيين، هؤلاء على ضلال بلا شك، وليسوا بقرآنيين لأن القرآن جاء بالأمر بطاعة الرسول ﵊، والفئة الأخرى التي توسعت قليلًا فرأت الاقتصار في مصادر التلقي على القرآن والصحيحين فقط، وهذه ذكرناها في بعض الدروس التي مضت، وهناك جمعية وجماعة سموا أنفسهم جماعة الاقتصار على القرآن والصحيحين، وأشرنا إلى أن هناك مصنف اسمه تيسير الوحيين بالاقتصار على القرآن مع الصحيحين، وهذا لا شك أن في هذا تضييعًا وإهدارًا لقدر كبير مما ثبت عن النبي ﵊ خارج الصحيحين، فالتدين على هذه الطريقة ناقص، فقد يكون في غير الصحيحين ما هو ناسخ لما في الصحيحين، وقد يكون في غير الصحيحين ما هو مخصص، وقد يكون ما هو خارج الصحيحين مقيد لما في الصحيحين، وحينئذٍ يكون التدين بهذه الطريقة ناقص، فعلى هذا على المسلم خصوصًا طالب العلم أن يعنى بكتاب الله -جل وعلا- الذي هو المصدر الأول، وجميع ما ثبت عن النبي ﵊ سواءً كان ذلك متواترًا أو آحاد، وسواءً كان من أفراد الآحاد الصحيح والحسن كله مقبول في جميع أبواب الدين، وأما المبتدعة فإنهم لا يقبلون أخبار الآحاد في العقائد؛ لأن أكثر الأخبار جاءت بطريق آحاد، ورسل النبي ﵊ إلى الملوك وغيرهم أفراد، والاستدلال على حجية خبر الواحد وإن كان فردًا واحدًا فضلًا عن أن يكون عدد أكثر من أن تحصر، وعلى هذا درج الصحابة بعد أن أرسل النبي ﵊ إلى الآفاق أفراد يعلمونهم الدين، وينقلون لهم
1 / 19