شرح كتاب الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق لابن تيمية - محمد حسن عبد الغفار
تصانيف
شفاعة النبي ﷺ في أهل الموقف
قبل أن أتكلم على الشفاعة أقول: إن صاحب القرن قد التقم القرن، كما قال النبي ﷺ: (التقم صاحب القرن القرن، وأصغى ليؤذن له)، فإذا نفخ النفخة الأولى، صعق جميع الناس، وإذا نفخ في الصور النفخة الثانية فإذا الناس قيام ينظرون.
وكلهم يحشرون على أرض غير هذه الأرض وسماء غير هذه السماء، ويحشر الناس حفاة عراة غرلًا، أي: غير مختونين، ويبلغ العطش منهم مبلغه، ويشتد عليهم الكرب.
وعائشة ﵂ اندهشت عندما سمعت هذه الأوصاف من رسول الله ﷺ وقالت: (يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضنا إلى بعض، فقال: يا ابنة الصديق، الأمر أشد من ذلك).
أي: أن الشمس تدنو من الرءوس قدر ميل، فيبدأ العرق يتصبب من الناس، فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى صدره، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا.
فيشتد الأمر عليهم، كما وصف الله جل في علاه ذلك الموقف فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج:١ - ٢].
سكارى يتخبطون يقولون: ألا تدعون ربنا يكشف عنا هذه الكربة؟ ألا تشعرون بما نحن فيه من كرب شديد؟! فيجتمع رأيهم على أن يستشفعوا عند الله، ثم يقولون: من هو الذي يشفع لنا عند الله؟ فيذكرون آدم ﵇ ويقولون: آدم عبد خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، فيذهبون إلى آدم فيقولون: يا آدم، أنت خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما بلغ بنا من الكرب، فاشفع لنا عند ربك؛ ليخفف عنا ويفصل بيننا؟ فيقول آدم: أنا لست لها، لكن اذهبوا إلى نوح فإنه أول رسول أرسل إلى الأرض.
فيذهبون إلى نوح ﵇، فيقول: لست لها، ويذكر خطيئته، لكن اذهبوا إلى إبراهيم أبي الأنبياء.
فيذهبون إلى إبراهيم فيحيلهم على موسى، وموسى يحيلهم على عيسى، وكل نبي يقول: لست لها لست لها، اذهبوا إلى فلان، ثم يقول عيسى ﵇: اذهبوا إلى محمد ﷺ.
فيقول ﵊: أنا لها، أنا لها، فيذهب ﷺ إلى تحت العرش فيسجد، وهذا هو المقام المحمود؛ تكرمة من الله لمحمد ﷺ على رءوس الخلائق، أن الله جل في علاه لا يقبل أحدًا يشفع لفصل القضاء بين الناس إلا محمدًا ﷺ.
فيأتي ﷺ، فيخر ساجدًا فيعلمه الله محامد يثني عليه بها، فيقال له: يا محمد، ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع، فعند ذلك يرفع رأسه ﷺ ويطلب من الله ﷾ أن يأتي لفصل القضاء بين العباد.
ويأتي الله جل في علاه فيفصل بين العباد، وأول من يفصل الله جل في علاه بينهم الأمة الإسلامية.
ثم يضرب الجسر على متن جهنم، كما قال النبي ﷺ، والجسر: هو الصراط الذي يعبرون عليه إلى الجنة فمنهم من يجتازه كطرفة عين، ومنهم من يهوي في جهنم والعياذ بالله.
وهو أدق من الشعرة وأحد من السيف، فيه كلاليب -أي: خطاطيف- تخطف الناس، هذه الكلاليب وصفها النبي ﷺ بأنها كشوك السعدان، وهي إذا أخذت بيد أحد أو برجله، فلن يفلت منها، بل لا بد أن تنزل به إلى نار جهنم والعياذ بالله.
وفي هذا الموقف العظيم لا أحد من الناس يتكلم إلا الرسل، يقولون: (اللهم سلم سلم)، هذه مقولة إبراهيم ونوح وموسى وعيسى وأولي العزم من الرسل.
ويصف النبي ﷺ عبور الناس على الصراط، فالمؤمنون الخلص الذين أطاعوا ربهم وأدوا الفرائض، وانتهوا عن المحرمات، فإنهم يمرون كطرفة عين، وكأجاويد الخيل، وكالريح المرسلة.
وقد ذكر النبي ﷺ أن أول أمة يعبرون الصراط هي الأمة الإسلامية؛ ولذلك قال النبي ﷺ: (أنا وأمتي أول من يجيز الصراط) والحمد لله على أن جعلنا من أمة محمد ﷺ.
فمنهم من يجتاز الصراط كطرفة عين، ومنهم من يجتازه كالريح المرسلة، ومنهم من يجتازه كأجاويد الخيل، وكالطير، ومنهم من يمشي، ومنهم من يزحف، وآخر هذه الأمة عبورًا على الصراط هو من يحبو على الصراط، ومنهم المكردس، ومنهم الذي تخطفه الكلاليب، ومنهم الذي يخدش لكن ينجو بفضل الله عليه.
وقد فسر ابن مسعود ﵁ قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ [مريم:٧١] حيث قال: هو المرور على الصراط.
إذًا: يأتي محمد ﷺ فيشفع في الخلائق الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود الذي وعده ربه جل وعلا.
8 / 3