132

شرح كتاب التوحيد لابن خزيمة - محمد حسن عبد الغفار

تصانيف

الفطر السليمة والعقل يقرران علو الله تعالى أما العقل فإنه يقرر ذلك؛ إذ أن العلو صفة كمال، فإنك إذا أردت أن تزدري إنسانًا فإنك تقول له: هذا إنسان سافل، أي: أن فيه سفولًا، والإنسان أصلًا إذا انحط أو سفل فهذا نقص فيه، أما إذا أردت أن تظهر أن الرجل هذا رجل ذو أخلاق رفيعة فإنك تقول: إن فلانًا كامل، والعلو صفة كمال، وتقول: هذا رجل عنده أخلاق عالية، أخلاق سامية، أخلاق راقية، فالعلو صفة كمال بالعقل، والسفول صفة نقص به أيضًا، والقاعدة: أن الله منزه عن كل نقص، فبالعقل أيضًا تقرر صفة العلو، وأنها كمال، ونحن نصف الله جل وعلا بكل كمال، فإذا اتصف الإنسان بصفة كمال فالله أولى بها، فإذا وصفت عبدًا بأن له الكمال في الخلق أو أن خلقه راقٍ مثلًا أو سام، فإنك لابد أن تقول: والله أولى بهذه الصفة؛ لأنها صفة كمال. ومن الأدلة أيضًا: الفطر السليمة، فالفطر السليمة تعتقد الاعتقاد السليم في كمال الله جل في علاه، فإن الله فوق عرشه وأنت في الأرض، إذا أصابتك مصيبة التف قلبك حول العرش، وإذا أردت أن تدعو الله جل وعلا اتجه قلبك إلى من فوق العرش ﷾، ولذلك كان الجويني يبين أن الله جل وعلا ليس على عرشه، فجاء الهمداني فألقى عليه شبهة من أعظم ما تكون، فقال: يا إمام! نسلم لك أن الله ليس على العرش، لكن أمرًا حيرنا، قال: ما هو؟ قال: ما تضيق بنا ضائقة إلا ونجد القلوب ترتقي إلى من فوق العرش، وإذا دعونا رفعنا أيدينا إلى السماء، فما هذا؟ فضرب الإمام الجويني على رأسه وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني. معنى ذلك: أنه كان يرى في نفسه ذلك، فكان إذا ضاقت به الأمور وإذا وقعت به الملمات وجد نفسه تنظر إلى السماء، فقلبه معلق بصاحب العرش، أو بمن فوق العرش ﷾، فإذا دعا الله لا يدعو إلا وهو رافع يديه، وهذا واقع مشاهد. والنبي ﷺ في غزوة بدر رفع يديه حتى ظهر بياض إبطيه وهو يقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم)، وأنت كلما نزلت بك المصائب نظرت إلى السماء فدعوت، بل إنك تبكي وأنت تنظر إلى السماء بفطرة سليمة جبلت عليها. إذًا: فالله جل وعلا فوق عرشه، وهذا ثابت بالكتاب وبالسنة، وبإجماع الصحابة، وبالعقل السليم الصحيح الذي لا يخالف صريح السنة، وبالفطر السليمة أيضًا. أخي الكريم: إذا اعتقدت هذا الاعتقاد الصحيح السديد السليم فلك تبع ستحاسب عليه. أولًا: يجب عليك أن تتعلم هذا العلم؛ لأنه فرض عين على كل إنسان أن يعتقد في الله الاعتقاد السديد الصحيح، ولا يعتقد الاعتقاد الباطل الذي يعتقده أهل الباطل والبدع كما سنبين في الرد عليهم، لكن إذا اعتقدت بعدما تعلمت هذا، وجب عليك أمر آخر فوق هذا الأمر وهو: أن تتعبد لله بهذا الاعتقاد الصحيح، فإذا اعتقدت أن ربك جل وعلا له العلو المطلق، وعلو الشأن، وعلو القهر، «رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ»، وعلمت أن الله علي يحب كل علي، فلا بد أن تتعبد لله بأثر هذه الصفة، صفة الكمال، فتكون عالي الهمة أمام ربك، لا من الدون ومن الأسافل، فلا ترضى لنفسك بسفاسف الأمور، بل تكبر همتك فتقول: ولم لا أكون مثل ابن تيمية؟ ولم لا أكون مثل العز بن عبد السلام؟ ولم لا أكون مثل أبي بكر أو عمر؟ فذاك فضل الله يؤتيه من يشاء، فالذي يفرق بيني وبين رسول الله هي: درجة النبوة، لم لا تكون همتك كذلك؟ إذا اعتقدت في ربك هذا الاعتقاد السديد الصحيح السليم، وأن الله علي يحب كل علي فإن همتك تكبر وتعلو، فتصبح دائمًا في عروج وفي علو، ولا ترضى بالدنيا والدون، فإن الذين يلتفون حول الدنيا يلتفون حول الجيف، والأسد أبدًا لا يقع على الجيف، بل تنظر لأهل الدنيا فتبكي عليهم؛ لأن الله شغلهم بالدنيا عن الدين، وأنت تعلم وتقر في نفسك إقرارًا صحيحًا سديدًا بأن الله لا يعطي الدين لأي أحد أبدًا؛ فإن الله يغار؛ لأن الدين جوهرة، والجوهرة لا تعطى إلا لمن يصون هذه الجوهرة، وكما قال علمائنا: إن الله يعطي هذه الدنيا لمن أحب ومن لم يحب، أما الدين فلا يعطيه الله إلا لمن يحب. فكن -أخي الكريم- عالي الهمة حتى يصطفيك الله جل وعلا فيحبوك بالدين، ويحبوك بالعلم، ويحبوك بالرفعة والارتقاء عنده. إذًا: إذا اعتقدت الاعتقاد الصحيح بأن الله علي فستكون علي الهمة، علي الخلق، فإن الأخلاق السامية ترفعك عند ربك، كما في مسند أحمد عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: (إن المسلم ليدرك بحسن خلقه درجه الصائم القائم)، إذًا: فأنت علي في همتك علي في أخلاقك، فإذا كنت صاحب أخلاق سامية فسترتقي إلى درجة الصائم القائم، فميزان المؤمن عند ربه: هو ميزان الخلق، كما قال أبو هريرة في بعض الآثار: (أثقل ما يوضع في ميزان العبد: البر، وحسن الخلق). لقد كان النبي ﷺ أحسن الناس أخلاقًا، حتى إن الله جل وعلا لما مدحه مدحه بأرقى السمات والصفات، فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:٤] واجعل يدك -أخي- هي العلية، فيد المعطي: هي العلية، وذاك فضل الله يؤتيه من يشاء، ويد الآخذ: هي اليد السفلى، لكن العلو كل العلو أن تعطي العلم أولًا، إذ أن العلماء قالوا: أكبر الصدقات وأعظم الصدقات صدقة العلم، ودليل ذلك ما جاء في الصحيحين عن ابن عباس قال: (كان رسول الله ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون حين يدارسه جبريل القرآن، ودارسه عند موته مرتين)، ففيه دلالة: على أنه كان أجود ما يكون عندما يدارسه القرآن. فإعطاء العلم صدقة أيما صدقة، والفرق بين صدقة العلم وصدقة المال: أن العلم يكثر بالنفقة، والمال ينقص بالنفقة عند الذي لا يوقن بالأجر عند ربه، أما من أيقن بالأجر عند ربه تعالى فإن ماله يزيد ويعلو، كما قال ﷺ: (أنفق بلال! ولا تخش من ذي العرش إقلالًا)، أما الملائكة فإنهم يقولون في الصباح والمساء: (اللهم أعط منفقًا خلفًا وأعط ممسكًا تلفًا). فالصحيح الراجح في ذلك: أن المال يزكو عند الاعتقاد الصحيح في الرب الجليل ﷾. أخي الكريم! إذا اعتقدت أن ربك فوق عرشه يدبر أمر خلقه، فلن تعبئ بالناس كلهم، إذ لا يمكن لأحد أن يضرك إلا الله جل وعلا، فهو الذي يدبر أمرك من فوق سبع سماوات، وهو ﷾ الذي يملك خزائن السماوات والأرض، فلن تطلب الرزق من أحد تذللًا، وإن أخذت بالسبب أخذت به مع يقين قلبك أن المسبب هو الله جل في علاه، فأنت لن تتذلل إلا لربك، ولن تعتقد الاعتقاد الصحيح إلا في ربك، قال ﷺ: (لو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، فالأقلام بيد الله لا بأيدي البشر، والقلوب تتحول في لحظة واحدة، فإذا اعتقدت الاعتقاد الصحيح في ربك بأنه يدبر أمور الخلق وشئون الخلق أجمعين، وأنه فوق عرشه فلن يمتلئ قلبك إلا بحب الله، ولن يمتلئ قلبك إلا بالخوف من الله جل وعلا، ولن يمتلئ قلبك إلا برجاء الله والتذلل له جل في علاه. أخي الكريم! إذا اعتقدت أيضًا أن الله جل وعلا فوق عرشه قاهر لعباده فلن تخاف إلا من ربك جل وعلا، وستعلم أن النصر والقوة بيده، وأن العزة بيده سبحانه، وستكون من حزب الله الذين قال الله فيهم: ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة:٥٦]، فإن حزب الله هم المقربون من ربهم جل في علاه. فإذا اعتقدت هذا الاعتقاد الصحيح السديد السليم في أن ربك قاهر فوق عباده، فإنك بإذن الله سوف تكون من حزبه ومن أوليائه، وسوف تكون ممن ينصر دينه سبحانه جل في علاه. هذا هو التطبيق العملي لهذا الاعتقاد الصحيح السديد، فإنك إذا اعتقدت أن ربك فوق عرشه، علي بذاته، وعلي بقهره ﷾، فستكون أغنى الناس وأكملهم وأقواهم وأعزهم. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يضرب لنا أروع الأمثلة في ذلك فيقول: ماذا يريدون مني؟ إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن سجنوني فسجني خلوة -أي: خلوة بربي جل وعلا- وإن نفوني فنفيي سياحة، أنا جنتي في قلبي، إن في هذه الدنيا جنة من دخلها دخل جنة الآخرة، ومن لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، نعوذ بالله من الخذلان. ونسأل الله ربنا جل في علاه أن يجعلنا من المعتقدين بهذا الاعتقاد الصحيح، وأن يجعلنا متعبدين له بحسن العبادة وبما يرضاه منا جل في علاه، وأن يجعل قلوبنا كلها معلقة بذاته وصفاته ﷾، وألا نتعلق بأي أحد من أبناء آدم، كما نسأل الله جل وعلا أن يغفر لنا ولكم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

16 / 8