اللباب «شرح فصول الآداب»

عبد الله بن مانع الروقي ت. غير معلوم

اللباب «شرح فصول الآداب»

الناشر

دار التدمرية

رقم الإصدار

الأولى

سنة النشر

١٤٣٣ هـ - ٢٠١٢ م

مكان النشر

الرياض - المملكة العربية السعودية

تصانيف

اللُّبَابُ «شَرحُ فُصُولِ الْآدَابِ» تأليف أبي مُحَمَّد عبد الله بن مَانعٍ الرُّوقيِّ دَار التَّدمُريَّة

صفحة غير معروفة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة الحمد لله رب العالمين، قيوم السماوات والأرضين .. مدبر الخلائق أجمعين، باعث الرسل إلى المكلفين؛ لهدايتهم وبيان شرائع الدين، بالدلائل القطعية وواضحات البراهين، أحمده على جزيل نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأصلي وأسلم على البشير النذير والسراج المنير وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أما بعد؛؛؛ فإن المولى ﷿ شرع لنا دينًا قويمًا، وهدانا صراطًا مستقيمًا، أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة كما قال -جلّ وعلا -: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (٣)﴾ (١) أرسل إلينا الرحمة المهداة ﷺ فما من خير إلا دل الأمة عليه، وما من شر إلا حذر الأمة منه، ومن جملة ذلك ما جاء به من تكميل الآداب والحث عليها،

(١) المائدة: ٣.

1 / 1

قال ﵊: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» (١) وقد اعتنى علماء الملة بتأليف الكتب التي تُعنى في هذا الباب وأفردوا لها المؤلفات المطولة والمتوسطة والمختصرة، ومن هذه المؤلفات سِفرٌ مبارك، قليل العبارة، جزيل المعاني، جمع كثيرًا من مسائل الآداب، وقرن بعضها بالدلائل، ألا وهو كتاب " فصول الآداب " للإمام أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي المتوفى سنة ٥١٣هـ، إلا أن هذا الكتاب لم يخدم الخدمة التي تليق بمكانته، مما دعا شيخنا صاحب الفضيلة الشيخ/ عبدالله بن مانع الروقي إلى القيام بشرحه. وقد تم ذلك في عدة مجالس جلّى فيها فضيلة الشيخ غامضه، وتبحر في دقائق مسائله، يذكر كل مسألة مبينًا فيها أقوال من سبق، فيستدل ويناقش، ويورد ويردُّ، فعرض بعض الطلبة - لما رأوا من جمال هذا الشرح وقوّته العلمية - على الشيخ تفريغ الأشرطة وإخراج هذا الشرح؛ ليستفيد منه طلاب العلم، فوافق الشيخ على ذلك.

(١) أخرجه أحمد ٢/ ٣٨١ (٨٩٣٩)، و"البُخاري" في "الأدب المفرد" ٢٧٣.

1 / 2

فقام بعض الإخوة بتفريغ الأشرطة المسموعة، وتخريج الأحاديث المذكورة ثم عُرض الكتاب بعد ذلك على فضيلة الشيخ فراجعه مشكورًا مأجورًا، فصحح ما كان فيه من خطأ، وزاد ما كان يحتاج إلى زيادة، حتى خرج لك الكتاب بهذه الحُلّةِ المباركة سائلين المولى ﷿ أن يبارك في جهود الشيخ، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين ... وكتب فهد بن الحميدي البراق

1 / 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمِّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّيْنَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ، وَسَلَّمَ تَسْلِيْمًا كَثِيْرًا إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. هَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ فُصُوْلِ الآدَابِ، وَمَكَارِمِ الأَخْلَاقِ المَشْرُوْعَةِ، قوله: (هذه نبذة من فصول الآداب ومكارم الأخلاق المشروعة) النبذة: هي القطعة اليسيرة، والشيء اليسير. ثم قال: (من فصول الآداب): والفصول جمع فصل، والآداب جمع أدب، وهو في اللغة: الضرب وحسن التناول. والأدب: اسم جامع لكل ما يحسن من الأقوال والأفعال، ومن اتصف به سُمي أديبًا. ثم قال: (ومكارم الأخلاق): المكارم: جمع مكرمة، وهي فعل الخير، يقول ابن فارس: ومن هذا المعنى (أي تقدير الشيء) الخلق، وهو السّجية لأن صاحبه قد قدر عليه، يقال: فلان خليق بكذا

1 / 4

(أي: قادر عليه وجدير به)، وأخلق بكذا أي ما أخلقه، والمعنى هو ممن يقدّر فيه ذلك، والخلاق: النصيب لأنه قد قدّر لكل أحد نصيبه. (١) والأخلاق: جمع خلق وهي - بضم اللام وسُكونها -: أي الدِّين، والطَّبْع، والسَّجِيَّة، وحقيقتُه أنه لِصُورة الإنسانِ الباطنة، وهي نفْسُه وأوْصافُها ومَعانِيها المُخْتصَّة بها، بمنزلة الخَلْق لِصُورته الظاهرة وأوْصافِها ومَعانيها، ولهما أوصاف حَسَنة وقَبيحة، والثَّواب والعِقاب ممَّا يَتَعَلَّقان بأوصاف الصُّورة الباطنة، أكثر مما يَتَعَلَّقان بأوصاف الصورة الظاهرة، فالمؤلف يشير إلى أنه ينبه في كتابه على هذه الآداب الكريمة. وقد روى الإمام أحمد من طريق عبد العزيز الدراوردي، عن ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة ﵁: أن النبي ﷺ، قال: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» (٢) وابن عجلان حسن الحديث وأخرج له مسلم مقرونًا وأحاديثه مشتهاةٌ وله أوهام في أخبار، وودت لو جمعت أحاديثه أو أوهامه ﵀ في جزء مفرد، ومن أوهامه:

(١) مقاييس اللغة لابن فارس ٢/ ٢١٤. (٢) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: ٣١٧٧٣) وأحمد (رقم: ٨٩٣٩) وابن سعد (١/ ١٩٢) وأخرجه الحاكم (رقم: ٤٢٢١) وقال: صحيح على شرط مسلم. والبيهقي (رقم: ٢٠٥٧٢). وأخرجه أيضًا: الديلمي (رقم: ٢٠٩٨) بلفظ: «بعثت لأتمم صالح الأخلاق».

1 / 5

حديث استعينوا بالركب فقد رواه ابن عجلان عن سُمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي صالح عن أبي هريرة كذا أخرجه أحمد (٢/ ٣٤٠) وأبو داود (٩٠٢) وغيرهم، ورواه ابن عيينة وغيره عن سُمي عن النعمان بن أبي عياش عن النبي مرسلًا، فينبغي الكتابة في هذا الباب. وفي لفظ لهذا الخبر الذي معنا: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (١) وفي لفظ: «محاسن» (٢) ورواه أيضًا الحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن وغيرهم، وإسناده صحيح. ونبينا ﷺ بعث لتكميل هذه الأخلاق، التي كانت موجودة قبل الإسلام، وكان الناس يفخرون قبل الإسلام بالشجاعة والكرم والعفة والنجدة، ثم جاء الإسلام وهذب منها ما يحتاج إلى تهذيب، وزاد عليها الشيء الكثير، فالحمد لله على أن بعث إلينا نبيه محمدًا ﷺ.

(١) أخرجه البزار (رقم: ٨٩٤٩) والبيهقى (رقم: ٢٠٥٧١). (٢) أخرجه مالك (رقم: ١٦٠٩) وقال ابن عبد البر في التمهيد (٢٤/ ٣٣٣): هذا الحديث يتصل بطرق صحاح عن أبي هريرة وغيره عن رسول الله ﷺ.

1 / 6

مِنْ تَأْلِيْفِ الشَّيْخِ الإِمَامِ القُدْوَةِ أَبِي الوَفَاءِ ابْنِ عَقِيْلٍ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-. ترجمة الإمام ابن عقيل هو الإمام الفقيه الحنبلي: أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبد الله البغدادي الظفري المقرئ. ولد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة في جمادى الثانية. (١) يعد ابن عقيل من أشهر المجتهدين في المذهب الحنبلي، ولما سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن معرفة المذهب في مسائل الخلاف ذكر كتاب عمدة الأدلة لابن عقيل ضمن الكتب التي يرجع إليها طالب العلم لمعرفة المذهب. (٢) وقال البعلي: انتهت إليه الرئاسة في الأصول والفروع. (٣)

(١) ذيل طبقات الحنابلة (١/ ١٤٢) وسير أعلام النبلاء (١٩/ ٤٤٣). (٢) الإنصاف للمرداوي المقدمة (١/ ١٨، ٢٣). (٣) المطلع على أبواب المقنع (٤٤٤).

1 / 7

وقال ابن بدران عنه: الإمام الأصولي المقرئ الواعظ أحد المجتهدين صاحب المؤلفات. (١) وقال ابن رجب: وكان ابن عقيل كثير التعظيم للإمام أحمد وأصحابه والرد على مخالفيهم، ومن كلامه في ذلك: ومن عجيب ما نسمع من هؤلاء الأحداث الجهال أنهم يقولون أحمد ليس بفقيه لكنه محدث، وهذا غاية الجهل؛ لأنه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناءً لا يعرفه أكثرهم، وخرج عنه من دقيق الفقه ما لا تراه لأحد منهم. وقال أيضًا: وما يقصد هذا إلا مبتدع قد تمزق فؤاده من خمود كلمته وانتشار علم أحمد، حتى إن أكثر العلماء يقولون: أصلي أصلُ أحمد، وفرعي فرع فلان، فحسبك بمن يرضى به في الأصول قدوة .... (٢) وكتب بعضُهم إليه يقول له: صِف لي أصحابَ الإمام أحمد على ما عرفت من الإنصاف. فكتب إليه يقول: هُم قوْم خُشُنٌ، تقَلّصتْ أخلاقهم عن المخالطة، وغلظت طباعهم عن المداخلة، وغلب عليهم الجدّ، وقلَّ عندهم الهزل،

(١) المدخل لابن بدران (٤١٦). (٢) ذيل الطبقات (١/ ١٥٧).

1 / 8

وغربتْ نفوسهم عن ذل المراءاة، وفزعوا عن الآراء إلى الروايات، وتمسكوا بالظاهر تحرّجًا عن التأويل، وغلبت عليهم الأعمال الصالحة، فلم يدققوا في العلوم الغامضة، بل دققوا في الورع، وأخذوا ما ظهر من العلوم، وما وراء ذلك قالوا: الله أعلم بما فيها، من خشية باريها، لم أحفظ على أحد منهم تشبيهًا، إنما غلبت عليهم الشناعة لإيمانهم بظواهر الآي والأخبار، من غير تأويل ولا إنكار، والله يعلم أنني لا أعتقد في الإسلام طائفة محقة، خالية من البدع، سوى من سلك هذا الطريق. والسلام. (١) وقال ابن رجب: وكان مع ذلك يتكلم كثيرًا بلسان الاجتهاد والترجيح واتباع الدليل الذي يظهر له، ويقول الواجب اتباع الدليل لا اتباع أحمد. (٢) شيوخه: نقل عنه ابن رجب الحنبلي أنه كان يقول: شيخي في القراءة: ابن شيطا. وفي النحو والأدب: أبو القاسم بن برهان. وفي الزهد: أبو بكر الدينوري، وأبو بكر بن زيدان، وأبو الحسن القرزويني، وجماعة ...

(١) ذيل طبقات الحنابلة (١/ ١٥٧). (٢) المصدر السابق.

1 / 9

وفي الحديث: ابن النوري، وأبو بكر بن بران، والعشاري، والجوهري، وغيرهم. وفي الشعر والترسل: ابن شبل، وابن الفضل. وفي الفرائض: أبو الفضل الهمداني. وفي الوعظ: أبو طاهر بن العلاف. وفي الأصول: أبو الوليد، وأبو القاسم بن تيان. وفي الفقه: القاضي أبو يعلى، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وأبو نصر بن الصباغ. إلى أن قال: ومن مشايخي أبو محمد التميمي، وأبو بكر الخطيب. وغيرهم كثير من أئمة عصره ﵀. ومن تلاميذه: - عمر بن ظفر بن حفص المغازلي. - المبارك بن كامل البغدادي، المعروف بابن الخفاف. - محمد بن نصر بن محمد السلامي، المحدث أبو الفضل. - صدقة بن الحسن بن الحداد الفقيه المؤرخ الحنبلي. - سعد الله بن نصر بن سعد المعروف بابن الدجاجي. (١)

(١) ذيل طبقات الحنابلة (١/ ١٤٢،١٤٣) والذيل لابن رجب الحنبلي (١/ ١٥٥، ٣٣٩).

1 / 10

ومن مصنفاته: لابن عقيل مصنفات كثيرة في أصول الدين والفقه والفروع والزهد وغير ذلك، فمنها: - أحاديث سئل عنها فأجاب. - الإرشاد في أصول الدين. - الإشارة، وهو اختصار لكتاب الروايتين والوجهين له. - الانتصار لأهل الحديث. - التذكرة في أصول الفقه. - تفضيل العبادات على نعيم الجنات. - تهذيب النفس. - الجدل في الفقه - جزء في الأصول. - المناظرات. - المنثور. - نفي التشبيه. - الواضح في أصول الفقه. (١) وغيرهم كثير.

(١) انظر: الذيل على الطبقات لابن رجب (١/ ١٥٦) والمطلع على المقنع للبعلي (٤٤٥) ومقدمة د/سليمان العمير في كتاب الأصول لابن عقيل (٢٣).

1 / 11

وكان ﵀ من أفاضل العلماء في أوانه، ومن أذكياء بني آدم في زمانه، مفرط الذكاء، زاهدًا ورعًا متعبدًا، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، متسع الدائرة في العلوم، وكان خبيرًا بالكلام، مطلعًا على مذاهب المتكلمين، وله بعد ذلك في ذم الكلام وأهله الشيء الكثير، بارعًا في الفقه وأصوله، وله في ذلك استنباطات عظيمة حسنة، وتحريرات كثيرة مستحسنة، ودرَّسَ وناظر الفحول، وكان دائم التشاغل بالعلم والعمل به، فرحمه الله رحمة الأبرار، العلماء العاملين الأخيار، وعفا عنه بمنه وكرمه. وتوفي ابن عقيل ﵀ في بغداد سنة ٥١٣هـ، في الثاني عشر من جمادى الأولى. (١) -

(١) الذيل لابن رجب (١/ ١٦٢).

1 / 12

فَصْلٌ السَّلَامُ المُبْتَدَأُ يَكُوْنُ مِنَ المَاشِي عَلَى القَاعِدِ، وَمِنَ الرَّاكِبِ عَلَى المَاشِي وَالجَالِسِ، وَالابْتِدَاءُ بِهِ سُنَّةٌ، وَإِذَا سَلَّمَ الوَاحِدُ مِنَ الجَمَاعَةِ المُشَاةِ أَوِ الرُّكَّابِ أَجْزَأَ عَنِ الجَمَاعَةِ، وَإِذَا رَدَّ وَاحِدٌ مِنَ الجُلُوسِ أَجْزَأَ عَنِ الجَمَاعَةِ. وَصِفَةُ السَّلَامِ: سَلَامٌ عَلَيْكُم، وَصِفَةُ الرَّدِّ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ. وَالزِّيَادَةُ المَأْمُوْرُ بِهَا المُسْتَحَبَّةُ: وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَلَا يُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ. وَيُسْتَحَبُّ (وَرَحْمَةُ اللهِ)؛ لِيَتْرُكَ لِلْمُجِيْبِ الزِّيَادَةَ المَأْمُوْرَ بِهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَبَرَكَاتُهُ، بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رَدِّهَا. وَإِذَا سَلَّمَ ثُمَّ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ ثُمَّ اِلْتَقَوْا عَادَتْ سُنَّةُ السَّلَامِ، كَذَلِكَ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ وَرَضِيَ عَنْهُم. وَيُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى شَوَابِّ النِّسَاءِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْلُبُ جَوَابَهُنَّ، وَسمَاعَ أَصْوَاتِهِنَّ، وَعَسَاهُ يَجْلُبُ الفِتْنَةَ، وَكَمْ مِنْ صَوْتٍ جَرَّ هَوَىً وَعِشْقًا.

1 / 13

وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَامِ عَلَى العَجَائِزِ وَالبَارِزَاتِ؛ لِعَدَمِ الفِتْنَةِ بَأَصْوَاتِهِنَّ، وَلِأَنَّ البَرْزَةَ تَحْتَاجُ إِلَى السَّلَامِ عَلَيْهَا، وَرَدِّ سَلَامِهَا، وَلِلْحَاجَةِ تَأْثِيْرٌ بِذَلِكَ؛ لِجَوَازِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ المَرْأَةِ لِلشَّاهِدِ لِيَحْفَظَ الحِلْيَةَ فَيُقِيْمَ الشَّهَادَةَ، وَكَذَلِكَ الصَّائِغُ وَالمَغَازِلِيُّ، وَكُلُّ مَنْ تُعَامِلُهُ النِّسَاءُ مِنْ أَرْبَابِ التَّجَائِرِ وَالصَّنَائِعِ. وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَامِ عَلَى الصِّبْيَانِ، تَعْلِيْمًا لَهُمْ لَلْأَدَبِ، وَتَحْبِيْبًا لِحُسْنِ الخُلُقِ، وَتَدْرِيْبًا عَلَى حُسْنِ المُعَاشَرِةِ. وَيَسْتَحَبُّ السَّلَامُ عِنْدَ الإِنْصِرَافِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الدُّخُوْلِ، وَالدُّخُوْلُ أَشَدُّ اِسْتِحْبَاْبًا. المؤلف ﵀ تعرض في هذا الفصل لمسائل السلام، ومسائل السلام عديدة وقد ألفت فيها مجلدات، وسأذكر منها ما يحتاج إليه مما ذكره المؤلف، وسأزيد عليه شيئًا يسيرًا إن شاء الله. فنأتي إلى حكم السلام في البداية وفضله، فقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: أن النبي ﷺ، قال: «لا تدخلون الجنة حتى

1 / 14

تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» (١) وجاء في الباب أخبار عدة. واختلف أهل العلم في حكم الابتداء بالسلام: فقال بعضهم: إنه واجب، واحتج بحديث البراء بن عازب ﵁، أنه قال: أمرنا النبي ﷺ بسبع - ومنها «إفشاء السلام» (٢) وأيضًا بما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ، قال: «خمس تجب للمسلم على أخيه» ... وفيه: «إذا لقيته فسلم عليه» (٣) وهذا أمر وقال قبله: تجب.

(١) أخرجه مسلم (رقم: ٥٤) وأخرجه أحمد (رقم: ٩٠٧٣) وأبو داود (رقم: ٥١٩٣) والترمذي (رقم: ٢٦٨٨) وابن ماجه (رقم: ٦٨) وابن حبان (رقم: ٢٣٦). (٢) أخرجه أحمد (رقم: ١٨٦٩٩) والبخاري (رقم: ٤٨٨٠ و٥٣١٢) ومسلم (رقم: ٢٠٦٦) ولفظه لمسلم: عن معاوية بن سويد بن مقرن، قال: دخلت على البراء بن عازب فسمعته، يقول: أمرنا رسول الله ﷺ بسبع ونهانا، عن سبع، أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار القسم أو المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام، ونهانا عن خواتيم، أو عن تختم بالذهب، وعن شرب بالفضة، وعن المياثر، وعن القسي، وعن لبس الحرير، والإستبرق، والديباج. (٣) أخرجه أحمد (رقم: ١٠٩٧٩) والبخاري (رقم: ١٢٤٠) ومسلم (رقم: ٢١٦٢) وأبو داود (رقم: ٥٠٣٠) وغيرهم، ولفظه عن أبي هريرة ﵁، قال: سمعت رسول الله ﷺ، يقول: «حق المسلم على المسلم خمس: يسلم عليه إذا لقيه، ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويشهد جنازته إذا مات، ويجيبه إذا دعاه» وفي رواية: «حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس» وفي رواية: == == «خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز».

1 / 15

وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الابتداء إنما هو سنة مؤكدة، واتفقوا جميعهم على أن الرد فرض، والمؤلف هنا مشى على أن الابتداء بالسلام سنة، والقول بالوجوب قول قوي، ولكن عامة أهل العلم على أنه سنة مؤكدة. ثم قال المؤلف: (السلام المبتدأ ............ والابتداء به سنة) وهذا لفظ حديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة ﵁، أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير» (١) فالسنة جاءت بأن الصغير يسلم على الكبير، وأن الماشي على الجالس، وأن القليل على الكثير، وأن الراكب يسلم على الماشي، ومعناه أنه مؤكد في حق الصغير، ومؤكد في حق الماشي، وفي حق القليل، وحق الراكب، والتمس العلماء حكمًا في سبب أمر هؤلاء بالابتداء، وهي ظاهرة، فنحن نغلب جانب الوارد على القارّ، لأنه قد تتعارض هذه المسائل، فيكون ماشٍ كبير على قاعد صغير، أو ماشٍ قليل على قاعدٍ

(١) أخرجه عبد الرزاق (رقم: ١٩٤٤٥) أحمد (رقم: ٨١٤٧) والبخاري (رقم: ٦٢٣١) وأبو داود (رقم: ٥١٩٨) والترمذي (رقم: ٢٧٠٤).

1 / 16

كثير، أو ماشٍ كثير على راكب قليل، فنغلب في هذه الأشياء جانب الوارد، سواءً كان الوارد كبيرًا أو قليلًا أو ماشيًا، فإنه يسلم على القاعد الصغير والقاعد الكثير والراكب القليل. وقوله ﵊: «يسلم الصغير على الكبير» هذا محمول على حالة التلاق، ولكن إذا كان الصغير قاعدًا، والكبير ماشيًا، فإن الكبير هو المأمور بالسلام؛ لأنه وارد على الصغير كما تقدم تقريره، وإذا ترك فيسلم الصغير، وأما حين التلاق والحركة من الطرفين فالصغير يسلم على الكبير والقليل على الكثير والراكب على الماشي. ثم قال المؤلف: (وإذا سلم الواحد ......... أجزأ عن الجماعة) عامة أهل العلم على أن الجماعة يجزئ عنهم أن يسلم الواحد منهم، ويجزئ عن القاعدين أن يرد أحدهم، وجاء هذا في حديث رواه أبو داود وأبو يعلى والبيهقي من طريق سعيد بن خالد الخزاعي قال حدثني عبد الله بن الفضل حدثنا عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: «يجزئ عن الجماعة أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن

1 / 17

القاعدين أن يرد أحدهم» (١) والحديث جاء مرسلًا كما عند مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم (٢) ومتصلًا كما عند أبي دواد وغيره (٣) كما تقدم لكن إسناد المتصل ضعيف، وحسنه ابن عبد البر في التمهيد (٤) وابن حجر في الفتوحات الربانية (٥) وأعله الدارقطني في العلل (٦)، وهذا الحديث ذكره الحافظ في بلوغ المرام ووهم حينما عزاه إلى أحمد إذ ليس هذا الحديث في المسند. (٧) وقد قال لي شيخنا ابن باز ﵀ التمسه في المسند. فقرأت مسند علي كله من المسند فلم أجده، فلما أصبحت أخبرته بذلك، وقلت

(١) أخرجه البزار (رقم: ٥٣٤) والبيهقي (رقم: ١٧٧٢٥) وفي شعب الإيمان (رقم: ٨٩٢٢). وقال عقبه: فيه سعيد بن خالد الخزاعي ضعفه أبو زرعة وأبو حاتم وقال الدارقطني: والحديث غير ثابت تفرد به سعيد بن خالد وليس بالقوي. (٢) الموطأ (رقم: ٣٥٢٤) وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم (رقم: ١٩٤٤٣) وأخرجه البيهقي شعب الإيمان من طريق عبد الرزاق (رقم: ٨٩٢٣). (٣) أخرجه أبو داود (رقم:٥٢١٢) وأبويعلى (رقم:٤٤١) والبيهقي (رقم:١٧٧٢٥). (٤) التمهيد (٥/ ٢٩٠). (٥) الفتوحات الربانية (٣/ ٣٩). (٦) علل الدارقطني (٤ / رقم ٤١٣). (٧) انظر بلوغ المرام حديث (رقم: ١٤٤٤).

1 / 18

له: الحافظ نفسه في شرح البخاري لم يعزه لأحمد (١). فقال الشيخ: هذا وهم وقع له في البلوغ ﵀، وأيضًا ليس في أطراف المسند الحنبلي للحافظ نفسه. وعليه فالجماعة إذا مروا يكون ابتداؤهم بالسلام سنةً كفائية. ثم قال المؤلف: (وإذا رد واحد ...... الجماعة) نقول إن سلم الجميع فهو أولى، والمراد بالجماعة: اثنان فصاعدًا، وحينئذ يكون الرد على القاعدين فرض كفاية، فيكفي عن الجماعة القاعدين أن يرد واحد منهم، ويسقط الرد عن البقية، ولكن بشرط: إذا سلم الواردون كلهم أو واحدًا منهم بلفظ: "السلام عليكم"، جمعًا، فإما أن يرد الجميع أو واحد منهم بلفظ: "وعليكم السلام"، ولا يقول: "وعليك السلام"، لأن الظاهر أن الأول سلم نيابة عن القادمين، فيجب أن يرد هذا نيابة عن القاعدين. فإذا سلم أحد الواردين على أحد القاعدين لم تحتسب السنة للبقية، وكان هذا السلام من أجل المعرفة الذي نهى عنه النبي ﷺ، فقد روى الطبراني في المعجم الكبير من طريق إبراهيم عن علقمة، قال: لقي عبد الله

(١) فتح الباري (٧/ ١١).

1 / 19