اختلاف الرواة في حديث ابن عباس (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)
نبين هنا طريقة من طرق المحدثين: البخاري روى الحديث من طريق شيخين له، عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه ﵎، روى الحديث من طريق شعبة عن قتادة، ومن طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة.
فلما نظرنا في رواية شعبة وحده وجدنا أن شعبة ما رفع الحديث إلى النبي ﷺ إلى ربه، إنما وقف بالحديث عند النبي ﷺ وصار القول (لا ينبغي لرجلٍ أن يقول: أنا خير من يونس.
إلخ) صار من قول النبي ﷺ، لا من قول رب العزة ﵎.
فـ البخاري روى هذا الحديث في كتاب الأنبياء، وكذلك أبو داود، قال البخاري وأبو داود: حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال: وساق الحديث.
من الذي قال؟ النبي ﵊، والبخاري في هذا الموضع من كتاب التوحيد جعله عن النبي ﷺ عن رب العزة ﵎.
فهل هذا الحديث قدسي أو حديث نبوي؟ أما رواية شعبة التي رأيتها في كل الكتب التي عندي فما تجاوز فيها شعبة النبي ﷺ، أي: أن البخاري رواه -كما قلت لكم- في كتاب حديث الأنبياء، وأبو داود، كلاهما من طريق حفص بن عمر عن شعبة عن قتادة.
فجعلاه من قول النبي ﷺ.
ثم رواه البخاري من حديث شيخه محمد بن بشار، قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، ومسلم أيضًا قال: حدثنا محمد بن بشار، لكن زاد مسلم: ومحمد بن المثنى، قالا -كلاهما-: حدثنا غندر - غندر من هو؟ محمد بن جعفر - قال: حدثنا شعبة بهذا الإسناد، فجعله من قول النبي ﷺ.
ورواه أحمد في مسنده، قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة.
وجعله من قول النبي ﷺ.
ورواه أيضًا عن شعبة أبو داود الطيالسي في مسنده، وعفان بن مسلم عند أحمد وابن أبي شيبة وابن حبان، وعمرو بن مخزوم عند الطبراني في المعجم الكبير وآخرون، كلهم يروي هذا الحديث عن شعبة، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال: (ما ينبغي لعبدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى) .
إذًا رواية شعبة إنما وصل بها إلى النبي ﷺ، ولم يرفعها إلى رب العزة ﵎.
إذًا فمن الذي رفع الرواية عن النبي ﷺ إلى رب العزة؟ الرجل الثاني عن قتادة الذي هو سعيد بن أبي عروبة.
إذًا البخاري لما روى الروايتين حمل رواية سعيد على رواية شعبة، وأسند البخاري إسنادين مع بعض، ولم يبين لفظ من الذي رفع الحديث من النبي ﷺ إلى رب العزة ﵎، نحن نعرف الألفاظ اللفظ الفلاني عن فلان إذا اختبرنا طرقه في الكتب الأخرى، فلما نظرنا إلى رواية شعبة عن قتادة، لأن البخاري حول الإسناد من بعدها، فقال: وقال لي خليفة، هو خليفة بن خياط صاحب التاريخ والمسند، ولقبه شباب، ذاك اسمه ولقبه شباب، أول ما تقرأ كلمة شباب إذًا هو خليفة بن خياط عند البخاري.
قال البخاري: وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي العالية عن ابن عباس عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه.
إذًا رَفْعُ الحديث من النبي ﷺ إلى رب العزة إنما هو في رواية سعيد بن أبي عروبة دون الروايات السابقة.
وقد يقول قائل: عندما ينفرد سعيد بن أبي عروبة بهذه الرواية، فلعل هذا من اختلاطه، فنقول: إن رواية يزيد عن سعيد قبل الاختلاط، والبخاري يتحرى في هذا الباب، يزيد بن زريع من قدماء أصحاب سعيد بن أبي عروبة.
إذًا: ما هو محل الشاهد هنا؟ رواية أبي العالية، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ، عن رب العزة.
إذًا هل يشك أحدٌ في ثبوت رواية النبي ﷺ عن ربه، إذا صح الإسناد إليه؟! لا.
فكأن البخاري أراد أن يقول: إن العنعنة إذا ثبت السماع والاتصال تكون كسمعت وحدثنا وأخبرنا، أنه لا يشك أحدٌ أن العنعنة من رسول الله ﷺ عن ربه ﵎ قائمةٌ مقام السماع، فإذا كانت العنعنة بين الراوي وشيخه بمثل هذه القوة، فحينئذٍ نحكم بالاتصال.
الإمام البخاري مختلف مع مسلم في مسألة اشتراط اللقاء، وعنعنة المعاصر، هل تحمل على السماع أم لا؟ البخاري قال: لا تحمل على السماع حتى يثبت في سندٍ من الأسانيد أنه قال: حدثنا.
مثلًا: أنت تروي عن الشيخ الألباني ﵀، إذا ثبت لدينا أنك لقيت الألباني ولو مرة، وثبت لك إسناد أنك أنت قلت: حدثني محمد ناصر الدين الألباني.
كل كلام منك عن الألباني بعد هذا سنأخذه؛ لأنه ثبت لدينا أنك لقيته يقينًا.
والإمام مسلم يقول بالمعاصرة -إذا كانوا يعيشون في وقت واحد- وجائزٌ ممكن.
فقرن الإمام مسلم الجواز بالإمكان؛ لأنه ممكن المعاصرة ولا يمكن اللقاء.
فالإمام مسلم قال: وجائزٌ ممكن، فكأن مسلمًا أراد معاصرةً بينة، وليست معاصرة مطلقة كما فهم عنه بعض العلماء، إن نقطة التعاصر كأنه أراد معاصرة بينة، كرواية مصريٍ عن مصري، وحجازي عن حجازي، وشامي عن شامي، وكوفي عن كوفي، وبصري عن بصري.
وهكذا، فاحتمال اللقاء قوي جدًا، إذ يتعذر أن يكون هناك طالبٌ للعلم، ويكون هناك شيخ مشهور، ومع ذلك لا يذهب هذا التلميذ ولا يلتقي مع هذا الشيخ أبدًا، هذه مسألة متعذرة للعالم، قد نقول: مصري مع كوفي لا يلتقيان مع بعض وإن كانا متعاصرين.
فالإمام البخاري يريد أن يقول: إن العنعنة إذا احتف بها ما يثبت اللقاء حملت على الاتصال، ولذلك أورد العنعنة هنا وألحقها بصيغ السماع.
7 / 15