123

شرح العقيدة الطحاوية - خالد المصلح

تصانيف

من لوازم الإيمان بالقدر الإيمان بأن الله قد كتب كل شيء
وقد ثبت سبق الكتابة في أحاديث كثيرة، بل في آيات من الكتاب الحكيم: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ [الحديد:٢٢] أي: من قبل أن نخلقها، هذا من القرآن، وأما من السنة ففي الصحيح قال النبي ﷺ: (كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، فالله ﷾ كتب مقادير كل شيء، وهذه الكتابة هي الكتابة العامة الشاملة.
ثم تلاها كتابات دون هذه الكتابة في المنزلة والمكانة والعظم وهي متنوعة، وكل كتابة لها قلم، وقد قال النبي ﷺ فيما أخبر به مما جرى ليلة المعراج: (أنه بلغ مكانًا سمع فيه صريف الأقلام) وصريف الأقلام: صوت جريها وكتابتها، وهذه الأقلام هي التي تكتب قدر الله اليومي، كما قال الله جل وعلا: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن:٢٩] يعز من يشاء! ويذل من يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ويرفع من يشاء، ويضع من يشاء، يحيي ويميت، يدبر أمر مملكته جل وعلا لا إله إلا هو.
فقول المؤلف ﵀: (نؤمن باللوح والقلم) اللوح: هو الذي كتب فيه المقادير، والقلم: هو الذي كتب بأمر الله ما يكون، قال: (وبجميع ما فيه قد رقم) أي: كتب، وهذا إيمان مجمل، وهو من مقتضيات ولوازم الإيمان بالقدر؛ لأن من لوازم الإيمان بالقدر الإيمان بأن الله قد كتب كل شيء، ولا يتم إيمان أحد إلا بالإيمان بهذه المرتبة.
يقول ﵀: (فلو اجتمع الخلق كلهم) الخلق: ليسوا خلق زمانك، بل الخلق كلهم منذ أن خلق الله الخلق إلى آخر من يخلق الله جل وعلا، (لو اجتمع الخلق كلهم على شيءٍ كتبه الله تعالى أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه) لا إله إلا الله! وهذا يبيّن لك عظيم قدرة الرب ﷾، وأنه لا مبدل لخلقه، ولا راد لأمره، ولا معقب لحكمه ﷾، فلو اجتمع الخلق كلهم على أن ينفعوك بأمر لم يكتبه الله لك ما نفعوك، ولو اجتمعوا كلهم على أن يردوا عنك قضاء الله في أمر كتبه الله عليك ما ردوه، وهذا قد ضمنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في وصيته العظيمة لـ ابن عباس: (احفظ الله يحفظك) فكان من جملة ذلك أن قال له: (واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) (رفعت الأقلام) أي: فرغ من التقدير السابق، (وجفت الصحف) الصحف المقصود بها ما رقم في اللوح المحفوظ، أو ما استنسخته الملائكة من اللوح المحفوظ، فإن الملائكة تكتب من اللوح المحفوظ ما يكون بالنسبة لكل مخلوق، قال الله جل وعلا: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية:٢٩] والاستنساخ هنا: هو الكتابة قبل الوقوع، فإن الاستنساخ نسخ، والنسخ يكون من منسوخ، والمنسوخ هو ما في اللوح المحفوظ، تكتبه الملائكة ثم يجري الله جل وعلا قضاءه وقدره، ثم يقابل ما وقع مما قدره الله من فعل المخلوق على ما في هذه النسخ، ثم يثبت ما فيها من خير ومن شر، فقوله: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية:٢٩] المراد به كتابة الملائكة من اللوح المحفوظ، لا الكتابة التي يكتبها الملائكة على الإنسان كقوله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:١٨] فهذه كتابة سابقة.
ثم قال ﵀ بعد أن قرر هذا الكلام: (جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة) القلم الذي جف هو القلم الأول السابق الذي كتب الله به مقادير كل شيء، (جف) أي: انقطعت كتابته.
وقد ذكّر النبي ﷺ أصحابه بهذا في مواضع عديدة، فلما استأذنه أبو هريرة ﵁ في الاختصاء أعرض عنه، ثم كرر مرة ثانية وثالثة، قال: (جف القلم بما أنت لاقٍ) كما في صحيح البخاري أي: أن الأمر قد فرغ سواءً فعلت هذا أو لم تفعل، فما كتبه الله عليك لا محالة أنه سيدركك.
قال المؤلف ﵀: (جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه) (ما أخطأ العبد) يعني: ما تجاوزه إلى غيره (وما أصابه) أي: ما ناله ونزل به، (لم يكن ليخطئه) أي: لم يكن ليتجاوزه إلى غيره، وهذا من كلام الصحابة ﵃، وورد مرفوعًا ونقل عن جماعة منهم: (إنك لو أنفقت مثل جبل أحدٍ ذهبًا في سبيل الله لم يتقبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك) نقل هذا عن عبادة بن الصامت وعن غيره من الصحابة ﵃، وهذا فيه عظيم منزلة القدر، وصدق ما قاله ابن عباس: (القدر نظام التوحيد، فمن كذب بالقدر نقض توحيده) .

11 / 4