إمعان النظر في مشروعية البغض والهجر

عبد الكريم الحميد ت. غير معلوم

إمعان النظر في مشروعية البغض والهجر

الناشر

دار التوحيد

تصانيف

ـ[إِمْعَانُ النَّظَرِ في مشروعية البغض والهجر، وإحياء ما عفا منه واندثر]ـ دراسة علمية في مشروعية البغض في الله والهجر فيه ﷿ تأليف الشيخ: عبد الكريم بن صالح الحميد، حفظه الله تعالى

صفحة غير معروفة

- بسم الله الرحمن الرحيم - مقدمة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد: فإنَّ هذا الكتاب تذكير لِمَن أكثروا النكير على من قام بأمرٍ صَارَ غريبًا لغربة الدِّين، وعجيبًا لكثرة الناكبين، بل مُنْكَرًا في فهوم المعارضين، وهو الزجر بالبغض والهجْر مُوَافَقةً لعبودية المعبود، ومحاذرة لعقوبة الإعراض والصدود، مع أن الإرادة بذلك النصيحة للمسلمين بإظهار الجَفاء، ليتجلى الصراط المستقيم دون خَفَاء. فالحذر الحذر من الآراء، فإنها مُحَصَّل الحيارى، ولن تغْني عن المغرور شيئًا إذا حَقَّت الحقائق، ومُيِّز الكاذب من الصادق، فالله المستعان وعليه التُّكْلاَن، ولاَ حَوْلَ ولاَ قُوَّة إلاَّ به سبحانه. قال تعالى: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ

1 / 5

حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (١)، وهي عامة في الكفار والمسلمين العصاة، ولو كانوا أرحامًا - كما سيظهر إن شاء الله تعالى -. وقال سبحانه: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ (٢)، قال القرطبي ﵀: (الصحيح في معنى الآية أنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإنَّ صُحبتهم كفر أو معصية، إذْ الصحبة لا تكون إلا عن مودة) انتهى (٣). وقال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ (٤). وقد جَاء عن ابن عباس ﵄ أنه قال: (أَحِبَّ فِي اللَّهِ، وَأَبْغِضْ فِي اللَّهِ، وَوَالِ فِي اللَّهِ، وَعَادِ فِي اللَّهِ، فَإِنَّهُ لا تُنَالُ وَلاَيَةُ اللَّهِ ﷿ إِلا بِذَلِكَ، وَلاَ يَجِدُ رَجُلٌ طَعْمَ الإِيمَانِ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلاتُهُ وَصِيَامُهُ حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ؛ وَصَارَتْ مُؤَاخَاةُ النَّاسِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، وَإِنَّ ذَلِكَ لا يُجْزِئ

(١) سورة المجادلة، آية: ٢٢. (٢) سورة هود، من الآية: ١١٣. (٣) «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (٩/ ١٠٨). (٤) سورة الأنعام، من الآية: ٦٨.

1 / 6

عَنْ أَهْلِهِ شَيْئًا؛ ثُم قَرأ: ﴿الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ﴾ (١)، وقرأ: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (٢» انتهى (٣). وقال ابنُ سحمان ﵀: وَمَا الدِّينُ إلاَّ الْحُبُّ وَالبغْضُ وَالوَلاَ ... كَذَاكَ البَرَا مِنْ كُلِّ غَاوٍ وَآثِمِ فمَن ادَّعى الْحُبَّ في الله وهو لاَ يُبغِض في الله فدعواه الحب في الله

(١) سورة الزخرف، الآية: ٦٧. (٢) سورة المجادلة، الآية: ٢٢. (٣) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» برقم (٣٤٧٧٠)، واللالكائي في «اعتقاد أهل السنة» برقم (١٦٩١)، وابن أبي الدنيا في «الإخوان» برقم (٢٢)، وابن المبارك في «الزهد» ص (١٢٠)، والعدني في «الإيِمَان» برقم (٥٦) واللفظ له، وكلهم عن ابن عباس موقوفًا؛ وأخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (١/ ٣١٢) عن عبد الله بن عمر ﵄ مرفوعًا، والطبراني في «المعجم الكبير» برقم (١٣٥٣٧) عن ابن عمر موقوفًا؛ والصحيح أنه موقوف على ابن عباس، والله أعلم.

1 / 7

كاذبة لأنَّ الجزءَ الأول من كلمة التوحيد «لاَ إله إلا الله» هي الكُفْر بالطاغوت ومعاداته والبراءة منه وأهله بأنواعه، ويتبعه البدع غير المكفِّرة والمعاصي والفسوق فهذه لها ولأهلها بُغْض، ومعاداة دون تكفير لأهلها ولو كانوا مسلمين أو أرحامًا بحسب ما وقعوا به، وإلا كيف يستقيم البغض في الله؟!. وليعلم أنَّ القصدَ الأول من تأليف هذا الكتاب هو توضيحُ وبيانُ بُغْضِ وهَجْرِ عُصَاةِ المسلمين وأربابِ البِدَع غير الْمُكَفِّرة لأنَّه صَار في زماننا عندَ أكثر الْخَلْقِ مُنْكَرًا عظيمًا أنْ يُهجَر أحدٌ مَهْمَا كانتْ حَالُه!، أمَّا البراءةُ من الكفارِ وَمُعَادَاتِهِم فليس هو موضوعُ الكتابِ، وهُو أظهرُ وأكبَرُ مِنْ مَوضوعِهِ.

1 / 8

الأصل في الهجر وذِكر بعض أقوال وأحوال العلماء حوله إنَّ الأصل في هجر أهل البدع والمعاصي في السنة حديث الثلاثة الذين خُلِّفُوا. قال الطَّبَرِي ﵀: (قصةُ «كَعْب بن مَالك» أصلٌ فِي هُجْرانِ أهلِ الْمَعاصي) (١)، وحديث قصة كعب رواه الشيخان " البخاري ومسلم " وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، قال الخطابي في «مَعَالِمِ السُّنَنِ» في حديث كعب بن مالك: (ونهى رسُول الله ﷺ عن كَلامِنَا أيها الثلاثة): (فيه من العلم أن تحريم الهجرة بين المسلمين أكثر مِنْ ثلاث إنَّمَا هو فيمَا يكونُ بينهما من قِبَلِ عَتَبٍ ومَوْجدة (٢) أو لِتقصير في حقوق العِشْرة ونحوها دون ما كان من ذلك في حق الدِّين فإن هِجْرة أهل الأهواء والبدعة دائمة على مَرِّ الأوقات والأزمان ما لَم يظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق) (٣). وعن عمَّارِ بنِ يَاسِر ﵁ قال: قَدِمْتُ عَلَى أَهلِي لَيلًا وَقَدْ تَشَقَّقَتْ

(١) أنظر: «فتح الباري» لابن حجَر (١٠/ ٤٩٧)، و«الزجر بالهجر» للسيوطي ص (١٣). (٢) الموْجدة: الغضب. (٣) أنظر: «سنن أبي داود بشرح الخطابي " مَعَالِم السُّنن "»، (٥/ ٩) ورقم (٤٦٠٠).

1 / 9

يَدَايَ، فَخَلَّقُونِي بِزَعْفَرَانٍ (١)، فَغَدَوْتُ عَلَى النبِيِّ ﷺ فَسَلَّمْتُ عَليهِ فَلَم يَرُدَّ علَيَّ ولَم يُرَحِّبْ بِي وَقال: (اذْهَبْ فَاغْسِلْ هَذَا عَنْكَ)، فَذَهَبتُ فَغسلته ثُمَّ جِئتُ وَقَد بَقيَ علَيَّ مِنه رَدْعٌ (٢) فَسَلَّمتُ فَلم يَرُدَّ علَيَّ ولَم يُرَحِّبْ بِي وقالَ: (اذْهَبْ فَاغْسِلْ هَذَا عَنْكَ)، فَذَهبتُ فَغَسَلته ثُمَّ جِئْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ وَرَحَّبَ بِي وَقَالَ: (إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَحْضُرُ جَنَازَةَ الْكَافِرِ بِخَيْرٍ، وَلاَ الْمُتَضَمِّخَ بِالزَّعْفَرَانِ، وَلاَ الْجُنُبَ)، قالَ: «وَرَخَّصَ لِلْجُنُبِ إِذَا نَامَ أَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَنْ يَتَوَضَّأَ» انتهى (٣). فَتَأمَّل هذا وتصَوَّر لَوْ فُعِل مِثلُه اليوم، مع أنَّ هذا الْخَلُوقَ اسْتعمَلَهُ «عَمَّارُ» ﵁ للدواء!؛ فمَا عَسَى أنْ تكُونَ حَالُنا مَع نَبينا ﷺ لو كانَ حَيًّا ونَحنُ عَلى أموُرٍ وَعظائم لاَ يُحِيطُ بِعِلْمِهَا إلاَّ اللَّهُ تعَالَى!؛ وَقَد يَسْهُلُ عَلى كلِّ أحَدٍ أن يُنكَر مَا لاَ يُوافِقُ مُرَادَه وهَواهُ مِنْ الْهَجْر والتغْليظِ على العُصَاةِ، ويسْهلُ عليه أنْ يَعِيبَ وَيَشتُمُ ويُكابِرُ!، فَهَذا كُلُّه وَارِدٌ مِنْ نفُوسٍ لَمْ تُزَمْ بِزِمَامِ التقوى حتى ولَوْ كانَ مَا يُنكِرُه

(١) خلَّقوني؛ أي: جعلوا الخلوق من قماش ونحوه في شقوق اليد للمداواة؛ أنظر «عون المعبود» لمحمد العظيم آبادي (١١/ ١٥٥). (٢) ردْع؛ أي: لَطْخ من بقية لون الزعفران؛ أنظر «عون المعبود» (١١/ ١٥٥). (٣) أخرجه أبو داود في «سننه» برقم (٤٦٠١)؛ والبيهقي في «سننه الكبرى» برقم (٨٧٥٤)، وأحمد في «مسنده» برقم (١٨٩٠٦)، وأبو يَعْلَى في «مسنده» برقم (١٦٣٥)، والبزار في «مسنده» برقم (١٤٠٢)؛ وهو حديثٌ حَسَن.

1 / 10

ويعيبه حَقًّا، أمَّا الْمُتَّقِي فيتذَكَّر رُجُوعَه إِلَى رَبِّهِ وَوُقوُفِهِ للمُحَاسَبَةِ وَيَعْلَم أنه بِغَيْرِ وَزْنِهِ الأمورَ بالْمِيزَانِ الشَّرْعِيِّ مُقْدِمٌ عَلى تَهْلُكَةٍ!، وقد أصبحَ من الْمُسْتَغْرب في زَمَانِنَا الإذعانُ للحَقِّ لا رَدُّهُ وَإِنكَارُهُ!. وعن الزهري ﵀ أنَّ رجلًا سلَّم على النبي ﷺ ثلاث مرات فلم يَرُد عليه!، فقيل له: لِمَ؟!، قال: (إِنَّهُ ذُو وَجْهَين)! (١). وقال أبو داود بعد أن ذكر أحاديث فيها النهي عن هجر المسلم؛ قال ﵀: (النَّبِيُّ ﷺ هَجَرَ بَعْضَ نِسَائِهِ أربعينَ يَوْمًا، وابنُ عُمَرَ هَجَر ابنًا له إِلَى أنْ مَاتَ) انتهى (٢)، ويأتي - إنْ شاء الله تعالى - في أثناء الكتاب غير ما تقدم من هجره ﷺ. وفي صحيح مسلم ﵀ (٣) أن قريبًا لعبد الله بن مغفل خَذَف فنهاه فقال: إنَّ رسول الله ﷺ نهى عن الْخَذْف وقال: (إِنَّهَا لاَ تَصِيدُ صَيْدًا وَلاَ تَنْكَأُ عَدُوًّا وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ)، قال: فعاد، فقال: أحدثك أن رسول الله ﷺ نهى عنه ثم عُدْتَ تخذف لا أكَلِّمك أبدًا. قال النووي ﵀ على حديث عبد الله بن مغفل: (في هذا الحديث هجران أهل البدع والفسوق ومُنَابِذِي السنة مع العلم، وأنه يجوز

(١) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» برقم (٢٥٤٦٤). (٢) أنظر: «سنن أبي داود»، (٤/ ٢٧٩). (٣) برقم «١٩٥٤».

1 / 11

هجرانه دائمًا؛ والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا، وأما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم دائمًا، وهذا الحديث مِمَّا يؤيده مع نظائر له كحديثِ كعب بن مالك وغيره) انتهى (١). وقد جاءَ أنَّ محمَّد بن سِيرين حَدَّث بِحَدِيثٍ فقال رَجُلٌ: قال فلانٌ كذا؛ فقال ابنُ سيرين: (أحَدِّثك عن رَسُولِ الله ﷺ وتقول: " قال فلان كذا "، لاَ أكلِّمُك أبَدًا) انتهى (٢). وعن الزهري ﵀ عن سَالِم بن عبد الله أنه قال: أعرستُ في عهد أبي فأذِن (٣) أبي الناس، وكان أبو أيوب فيمن آذنَّا، وقد ستروا بيتي (٤) ببجاد أخضر (٥)، فأقبل أبو أيوب فدخل فرآني قائمًا، فاطَّلَع فرأى البيت مُستَّرًا ببجاد أخضر فقال: يا عبد الله أتَسْترون الْجُدُر؟!، قال أبِي واستحيا: " غَلَبَنا النساء يا أبا أيوب "، قال: (مَن خشي أن يغلبنَّه النساء فلم أخش أن يغلبنك!)، ثم قال: (لا أطْعَم لَكُم طعَامًا ولا أدخُل لكُم بيتًا)، ثُمَّ خَرَج ﵁ (٦).

(١) أنظر: «شرح النووي على صحيح مسلم»، (١٣/ ١٠٦). (٢) أخرجه الدارمي في «سننه» برقم (٤٤١)، والقاسمي في «قواعد التحديث» ص (٢٩٥). (٣) آذن: دَعَا. (٤) البيت: الغرفة. (٥) هو جنس من الأنماط أو الثياب يستر بها الجدران قاله ابن الأثير. (٦) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (٤/ ١١٨، ١١٩)، وابن عساكر في «تاريخه» (١٦/ ٥٠)، وسنده قوي؛ وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤/ ٥٥): (رجاله رجال الصحيح)؛ ورواه البخاري في «صحيحه» (٥/ ١٩٨٦) تعليقًا.

1 / 12

وهذا مِن نُصْحِه ﵁ لئلاَّ يَرْكَن الناسُ إلى زخَارِفِ الدنيا وَزِينَتِهَا؛ كيف لو رأى الصحابة ﵃ ما نحنُ فيه!، فهذا جِدارُ طينٍ غايته أنه سُتِر بِخِرْقةٍ وفي لَيلة عُرْسٍ!، واللَّهُ المستعان.

1 / 13

فصل قال ابنُ حَجَر ﵀: (ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلى أنه لا يُسَلَّم على الْمُبتَدِع ولاَ الفاسق) انتهى (١). وقال الْمُهَلب ﵀: (تَرْكُ السَّلاَمِ على أهلِ الْمَعَاصِي سُنَّة مَاضية، وبه قال كَثير من أهلِ العِلْمِ في أهل البِدَع) (٢). وقد وَضَع المنذري ﵀ في كتابه المعروف «الترغيب والترهيب» (٣) بَابًا جعل عنوانه: (الترغيب في الحب في الله تعالى، والترهيب من حُبِّ الأشرار وأهل البدع لأنَّ الْمَرْءَ مَع مَن أحَبَّ). وقال النووي ﵀ في «رياض الصالحين» (٤): (بابُ تحريمِ الْهُجْرَان بينَ المسلمين إلاَّ لِبِدْعَةٍ في الْمَهْجُور أو تظاهر بِفِسْق أو نحو ذلك). قال محمد الزمْزَمي: (وهذه السُّنة العظيمة أعني هجر المبتدعين والمتجاهرين والظالمين من السنن التي اندثرت ولَم يبق لَهَا وجودٌ منذ أزمان، لهذا أصبح العلماء يُنكرونها ويروْنَهَا حُمْقًا وَظُلمًا للمسلمين!) انتهى (٥)؛ وذكر ابن مفلح عن الإمام أحمد فيمن ترك

(١) «فتح الباري»، (١١/ ٤٠). (٢) المصدر السابق. (٣) (٤/ ٨). (٤) ص (٣٦٣). (٥) أنظر: «إعلام المسلمين بوجوب مقاطعة المبتدعين والفجار والفاسقين»، ص (٣٩).

1 / 14

السُّنة مع العلم بها أنه يُهجر (١)؛ وروى البخاري عن الحسَن أنه قال: (ليس بينك وبين الفاسق حُرْمة) (٢). وقد قال ابن عقيل: (إذا أرَدْتَّ أنْ تعلم مَحْلَّ الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زِحَامِهم في أبوابِ الجوامِعِ ولاَ ضَجيجهم بِلبَّيْك، وإنما انظرْ إلى مُوَاطأتهم أعداءِ الشَّريعة!) انتهى (٣). هذه الْمُوَاطَأة صَارَتْ في زَمانِنَا تَزَمُّتًا وَضِيقَ عَطَن!. قال شيخ الإسلام: (وهكذا السنة في مقارنة الظالمين والزناة وأهل البدع والفجور وسائر المعاصي، لا ينبغي لأحد أن يُقارنهم ولا يخالطهم إلى على وجه يَسْلم به من عذاب الله ﷿، وأقَلُّ ذلك أن يكون مُنكَرًا لِظُلْمِهِمْ مَاقِتًا لَهُم شانئًا ما هُمْ فيه بحسَب الإمْكَان، كما في الحديث: «مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتطع فَبِقَلْبِه وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيِمَان» (٤» انتهى (٥).

(١) أنظر: «تحفة الإخوان»، ص (٥٨). (٢) «الأدَب المفرَد»، ص (٣٥١). (٣) أنظر: «غذاء الألباب» للسفاريني (١/ ٢٣١)، و«الآداب الشرعية) لابن مفلح (١/ ٢٦٨). (٤) أخرجه مسلم برقم (٤٩)، وابن حبان في «صحيحه» برقم (٣٠٦)، والنسَائي في «سننه الكبرى» برقم (١١٧٣٩)، وأبو داود برقم (١١٤٠)، والترمذي برقم (٢١٧٢)، وابن ماجه برقم (١٢٧٥)، وأحمد في «مسنده» برقم (١١١٦٦)، وغيرهم؛ وكلهم من حديث أبي سعيد الخدري ﵁ مرفوعًا. (٥) «مجموع الفتاوى»، (١٥/ ٣٢٤).

1 / 15

والعجَب مِمَّن يترك الهجر ومع هذا لا يوجد منه شيء من هذا الذي ذَكَرَه شيخُ الإسلامِ للعُصَاة!، كيف بِمَن يُظهر لهم المودة!. قيل لسَمُرة بن جندب ﵁: إنَّ ابنك لَم يَنَم البارحة بشما (١)، فقال: (لوْ مَاتَ لَم أُصَلِّ عليه) (٢) يعني لأنه أعان على قتل نَفْسِه. ومَرَّ زياد بن حُدَير ﵀ على قوم يلعبون بالنَّرْد فَسَلَّم عَليهم وهو لاَ يَعلم، ثم رَجَعَ فقال: (رُدُّوا عَلَيَّ سَلامي!) (٣). «زِيَاد» هذا من خيار التابعين ﵀، ولو فعل مثل فعله أحد اليوم لصار أُضحوكةً للسُّفَهَاء!. قال شيخُ الإسلامِ ابن تيمية ﵀: (وَلِهَذا لَمْ يكن للمُعْلِن بالبِدَع والفجور غيبة، كمَا رُوِي ذلك عن الحسَن البصري وغيره؛ لأنَّه لَمَّا أعلن ذلك استحَقَّ عقوبةَ المسلمين له، وأدنَى ذلك أنْ يُذَمَّ عليه لينْزَجِر وَيَكُف الناس عنه وعن مُخَالطته، ولو لَمْ يُذَم وَيُذْكَر بِمَا فيه من الفجُور والْمَعصية أو البِدْعة لاغترَّ به الناس، ورُبَّمَا حَمَلَ بَعضُهُم أنْ يَرتكب ما هو عليه، ويزداد أيضًا هو جرأةً وفجورًا ومعاصي، فإذا ذُكِر بِمَا فيه انكفَّ وانكفَّ غيْرُه عن ذلك وعن صُحْبته ومُخَالَطَتِه، قال الْحَسَن البَصْري: «أترغبون عن ذِكْر الفاجر؟!، أذكُروهُ بِمَا فيه كَيْ يَحْذَره

(١) البَشَم: التخَمة عن الدَّسَم. (٢) أنظر: «النهاية في غريب الحديث والأثر» لابن الأثير، (١/ ١٣٠ - ١٣١). (٣) «مسائل أبي داود» للإمام أحمد، ص (٢٨٠).

1 / 16

الناسُ»، وقد رُوِيَ مَرفوعًا، و«الفجُورُ» اسمٌ جَامِعٌ لكلِّ مُتَجَاهر بِمَعْصِيَةٍ أوْ كَلاَم قَبِيحٍ يَدُلُّ السَّامِع له على فُجورِ قَلْب قَائله؛ وَلِهَذا كان مُسْتَحِقًّا للهَجْرِ إذا أَعْلَن بِدعةً أو مَعصيةً أو فجورًا أوْ مُخَالَطَةً لِمَن هذا حاله بحيث لاَ يُبالي بِطَعن الناسِ، فإنَّ هَجْرَهُ نَوْعُ تعزيرٍ له، فَإذا أعْلَنَ السيئات أُعْلِنَ هَجْرُه، وإذا أسَرَّ أُسِرَّ هَجْرُهُ، إذِ الْهِجْرة هي الْهِجْرة على السَّيئَاتِ، وَهُجْرَةُ السيئات هُجْرة ما نَهَى الله عنه، كمَا قال تعالى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ (١)، وقال تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ (٢» انتهى (٣).

(١) سورة المدثر، آية: ٥. (٢) سورة النساء، من الآية: ١٤٠. (٣) «مجموع الفتاوى»، (١٥/ ٢٨٦ - ٢٨٧).

1 / 17

ذِكر بعض من يهجر من الصحابة وقد جَمَع بعض أهل العلم أسماء من كان يزجر بالهجر من الصحابة والتابعين فمَن بعدهم فذكر منهم: عائشة، وحفصة، وحفص بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وطاووسًا، وَوَهْب بن مُنَبِّه، والحسن البصري، وابن سيرين، وسفيان الثوري، وخَلْقًا .. إلى أن خَتَمَ بالنووي فإنه كان يزجر بالهجر ويراه، وقرَّره في شرح صحيح مسلم وغيرِه أوضح تقريرٍ واحتج له بعِدَّة أدلة. وأبلغ ما ذُكر من ذلك أنَّ سعيد بن المسيب هجَر أباه فلَمْ يُكَلِّمه إلى أن مات، ذكر ذلك ابن قتيبة في المعارف، وابن المسيب له علم التابعين وأفضلهم، وكان أبوه صحابيًا (١)؛ ومعلوم أنه لم يهجر أباه إلاَّ لِمُخالفة شرعية رآها فيه. وعن سالِم بن عبد الله أنَّ عبد الله بن عمر ﵄ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها)، قال: فقال ابنه بلال بن عبد الله بن عمر ﵄: والله لنمنعهن؛ قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبًّا سيئًا ما سمعته سبه مثله قط

(١) أنظر: «الزجر بالهجر»، للسيوطي ص (٢٣).

1 / 18

وقال: (أُخْبِرُك عن رسول الله ﷺ وتقول: " وَاللهِ لَنَمْنَعَهُنَّ "!) (١)؛ وفي روايةٍ أخرى: (فمَا كَلَّمَه عبد الله حتى مات) (٢).

(١) أخرجه مسلم في «صحيحه» برقم (٤٤٢). (٢) أخرجه أحمد في «مسنده» برقم (٤٩٣٣).

1 / 19

الهجر فوق ثلاث تقدَّمَ قول النووي أنَّ النهي عن الْهُجْرَانِ فوقَ ثَلاَث أنه في أموُرٍ دنيوية غير الدِّين، وهو الذي نهى عنه النبي ﷺ بقوله: (لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ) (١). وقدْ قال ابن عبد البَرِّ ﵀: (وأجْمَع العلماءُ على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث إلاَّ أن يكون يَخاف من مُكالمته وصلته ما يُفسد عليه دينه أو يولد به على نفْسِه مَضَرَّة في دينه أو دنياه فإن كان ذلك فقد رُخِّصَ له في مُجَانبته وَبُعْدِهِ) انتهى (٢). قال الشيخ حمود بن عبد الله التويجري ﵀: (وبعضُ أهلِ الجهل الْمُرَكَّب يُنْكرون على مَن يهجر أهل البدع والفسوق والعصيان ويكفهرّ في وجوههم ويعدُّون ذلك من الْهَجر الذي نَهَى عنه رسول الله ﷺ بقوله: «لاَ تَهْجُرُوا» (٣) وقوله: «لا يَحل لِمُسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث لَيَالٍ» (٤).

(١) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (٥٧٢٧)، ومسلم برقم (٢٥٦٠) من حديث أبي أيوب الأنصاري ﵁. (٢) «التمهيد»، (٦/ ١٢٧). (٣) أخرجه مسلم في «صحيحه» برقم (٢٥٦٣) من حديث أبي هريرة ﵁ مرفوعًا. (٤) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (٥٧٢٦) و(٥٧٢٧)، ومسلم في «صحيحه» برقم (٢٥٥٩) و(٢٥٦٠)؛ وَكِلاَهما من حديث أنس بن مالك وأبي أيوب الأنصاري ﵃ مرفوعًا.

1 / 20

وقد سَمِعْتُ هذا من بعض الخطباء والقُصَّاص والحامل لهم على التسوية بين الْهَجْر الديني وهو ما كان لله وبين الهجر الدنيوي وهو ما كان لحظ النفس لا يخلو من أمرين: - إمَّا لِجَهْلٍ بالفرقِ بين هَذَا وهذَا. - وإمَّا قصد لَبْس الحق بالباطل عنادًا ومكابرة وتَمْويهًا على الأغبياء الذين لا علم لهم بمدارك الأحكام، وهذا الأخير هو الظاهر من حال المتلبسين منهم ببعض المعاصي ليدفعوا عن أنفسهم الشنْعة، وَلِيُوهِمُوا الجهال أن هجرهم إياهم من أجل المعصية لا يجوز، وأن الذين يهجرونهم من طلبة العلم وغيرهم ليسوا مصيبين. فَيُقَال لِهَؤُلاَءِ المذبذبين المدَلِّسين: إنَّ الذي جاءت الأحاديث بالنهي عنه فيما زاد على الثلاث هو التهاجر الدنيوي) ثم قال: (وقد جاءت السنة بهجر أهل المعاصي حتى يتوبوا كما هجر النبي ﷺ كعب بن مالك وصاحبيه خمسين يومًا ولم يكلمهم حتى تاب الله عليهم (١). وهَجَر ﷺ زينب بنت جحش ﵂ قريبًا من شهرين لَمَّا قالت: (أنا أُعْطِي تِلْكَ اليَهُودِيَّة؟!) - تعني: «صَفِيَّة»

(١) سبَقَت الإشارة إلى أن حديث قصة «كَعْب» ﵁ أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم.

1 / 21

﵂ (١). وهجَر ﷺ الذي بنى فوق الحاجة حتى هدم بناه وسوَّاه بالأرض. وهجَر ﷺ رجلًا رآه مُتَخَلِّقًا بزعفران حتى غسله وأزال عنه أثره. وهجَر ﷺ رَجُلًا رأى عليه جُبَّة من حرير حتى طَرَحَهَا. وهَجَر ﷺ رَجُلًا رأى في يده خَاتَمًا من ذهب حتى طَرَحَه. وفي سنن أبي داود وجامع الترمذي ومستدرك الحاكم أنه ﷺ هجر رجلًا رأى عليه ثوبين أحمرين، وكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يهجرون من أظهر المعصية حتى يتوب وتظهر توبته. وقد قال ابن عبد القوي: وَهُجْرَانُ مَنْ أبْدَى الْمَعَاصِيَ سُنَّةً ... وَقِيلَ إِذَا يَرْدَعْهُ أوْجِبْ وَأَكِّدِ وَقِيلَ عَلَى الإِطْلاَقِ مَا دَامَ مُعْلِنًا ... وَلاَقِهْ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ مُرَبَّدِ. فلم يَذكر خلافًا في سُنِّية هجْرِ العَاصي الْمُجَاهر بالمعصية سَواء ارتدع أو لَمْ يرتدع.

(١) أخرجه أبو داود برقم (٤٦٠٢)، وأحمد في «مسنده» برقم (٢٥٠٤٦)، والطبراني في «مُعجمه الأوسط» برقم (٢٦٠٩)؛ وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤/ ٣٢٣): (رواه أبو داود باختصار، ورواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه " سُمَيَّة " روى لَهَا أبو داود وغيره، ولَم يَجرحها أحَد، وبقية رجاله ثقات) انتهى.

1 / 22

وإنما الخلاف في الوجوب هل هو على الإطلاق أم إذا كان العاصي يرتدع به فأين هذا مِمَّا يراه المتهوِّكون من إبطال الهجر الديني بالكلية ومعاملة الناس كلهم صالحهم وطالحهم باللُّطف والِّلين والْمَودَّة) انتهى كلام التويجري (١). قال أبو داود في «كتاب الأدب» من «سُنَنِه»: «باب فيمن يهجر أخاه المسلم» ثم ذكر أحاديث في تحريم الهجر فوق ثلاث، ثم قال في آخر الباب: (النبي ﷺ هجر بعض نِسَائِهِ أربعين يومًا، وابنُ عمر ﵁ هجَر ابنًا له إلى أن مات، وعمر بن عبد العزيز ﵀ غطى وجهه عن رَجُل) انتهى (٢). وبعد ذلك بيَّن أبو داود الفرق بين تحريم الهجر فوق ثلاث فقال: (إذا كانت الْهِجْرةُ للهِ فَلَيسَ مِنْ هذَا بِشَيء) انتهى (٣)؛ ويعني بذلك أنه ليس من النهي عن الهجر فوق ثلاث، وَلِهَذا أوْرَد الأمثلة السَّابقة؛ وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: (فَينْبَغِي أنْ يُفَرَّق بين الْهَجْرِ لحق الله، وبين الهجر لِحَقِّ نفْسِه، فالأول مَأمُورٌ به، والثَّانِي مَنْهِيٌّ عنه) (٤)؛ وقال: (الهجر من باب العقوبات الشرعية،

(١) «تحفة الإخوان بِمَا جاء في الموالاة والمعاداة والحب والبغض والهجران» ص (٣٨ - ٤٠). (٢) أنظر: «سنن أبي داود»، (٤/ ٢٧٩). (٣) المصدر السابق. (٤) أنظر: «مجموع الفتاوى»، (٢٨/ ٢٠٣ - ٢١٠).

1 / 23