سنحاول في هذا الفصل تتبع الظروف والعوامل التي أدت إلى ظهور نمط فكري جديد، له خصائص مميزة، أدت إلى وصفه ب «الفكر ما بعد الحداثي». لهذا سنقف عند دوافع ومنطلقات تلك الحركة، محاولين تحديد المقصود بما بعد الحداثة وما بعد التحديث والشرط ما بعد الحديث ... إلخ.
Demolition of Pruitt-Igoe (1972). (1) ما بعد الحداثة: النشأة والمصطلح
بدأت إرهاصات ثقافة ما بعد الحداثة في العالم الغربي كانعكاس مجتمعي من نقطة الوعي بمشكلات الحداثة، وعدم مقدرتها على مسايرة الواقع بشروطه الجديدة، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. والحال أننا لا بد أن نقرأ ما بعد الحداثة في ضوء مبررات ولادتها في أرضها الأم بوصفها انعكاسا لهذه الشروط الجديدة (الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية) في المجتمعات الغربية، وهو ما يكرس خصوصية الظاهرة بحكم نشأتها في الغرب تحديدا. ومن ثم لا ينبغي بالضرورة خضوع المجتمعات الأخرى التي لم تمر بتحولات مشابهة لهذا النمط من الفكر الجديد. يجب إذا النظر إلى تلك الثقافة باعتبارها نتيجة طبيعية لما مر به الغرب من تناقضات وانقسامات في الأيديولوجيات الحداثية، لا سيما في علاقة المركز بالهامش وما نشأ عنها من قيم الاستغلال والاستعمار، وغياب المساواة، وسيطرة النخبة ... إلخ. ومن ثم من الطبيعي أن تنشأ، كنوع من ردة الفعل، اتجاهات مضادة، تنادي بسقوط الأيديولوجيات، والسرديات الكبرى، ونهاية الميتافيزيقا، وتطالب بالخروج عن كل قياس معياري، وترسيخ مبدأ الانتماء الفردي، وربما تشيع أيضا ملمح الثقافة السلعية الاستهلاكية، ورفض مقولات وفرضيات عصر التنوير، وخطاب الحداثة المتمثل في الإيمان المطلق بالعقلانية الشمولية.
4
وعلى الرغم من خصوصية الظاهرة ما بعد الحداثية، انطلاقا من أن كل مجتمع يفرز شكله وقيمه الأكثر ملائمة له، عبر احتياجاته وشروط وجوده وتحولاته الراهنة ؛ فإن هذه الخصوصية تتلاشى أمام سطوة ونفوذ «وسائل الإعلام» وثورة الاتصالات، بالإضافة إلى التأثير الذي تمارسه الفنون المختلفة، لا سيما السينما، بحيث بات التأثر بمظاهر ونتاجات «ثقافة ما بعد الحداثة» من قبل المجتمعات «ما قبل الحداثية» أمرا واضحا ومستشريا على كافة المستويات. هذا فضلا عن أن المقارنة واردة أصلا بين قيم المجتمع «ما بعد الحداثي» وقيم المجتمعات «ما قبل الحداثية»؛ يقول جياني فاتيمو
G. Vattimo : «إن الثقافة الغربية مع نهاية الحداثة يسودها خطاب ميتافيزيقي (خطاب التكنولوجيا)، وهي بذلك ليست أفضل من الثقافات ما قبل الحداثية التي يسودها خطاب الأسطورة، وهي بهذا المعنى تهمش الإنسان وتقهره تماما كما تفعل مجتمعات الجنوب بإنسانها المهمش.»
5
على كل، فإن مراجعة سبل التحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، وهو موضوع ربما نوقش كثيرا في الغرب، أمر ضروري لفهم كيف يشكل توجه بعينه إلى المستقبل مواقفنا واختياراتنا في المرحلة التاريخية الحالية. وربما هذا الفهم يتطلب أيضا التوقف عند مفاهيم التحديث وما يخص التقدم والتطور التاريخي من أفكار. وهذا ما سنحاول أن نعرض له تفصيلا. (1-1) هل استنفدت الحداثة شروط وجودها؟
المتأمل في تاريخ الفكر الغربي منذ بدايات عصر النهضة وحتى منتصف القرن العشرين يلاحظ أن هناك معالم ثابتة حكمت تطور هذا الفكر، وظلت هي المحرك والدافع لمعظم أشكاله. هذه المعالم اعتبرها البعض «شرط الحداثة»
La condition modernisme
صفحة غير معروفة