الاستهزاء بالصالحين
فمثلًا: الكلمات التي لا يهتم بها الإنسان ولا يلقي لها بالًا قد تهلكه، كما قال النبي ﷺ: (إن الرجلَ ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالًا يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب).
وما أكثر هذه الكلمات التي لا يزنها صاحبها عند المقال ولا يفكر فيها، وقد تكون كفرًا، وقد تكون فسقًا، وقد تكون معصية، ولكنه لا يقدر لها تقديرًا، فكثيرًا ما يتكلم بكلمة في مسبة أو في بهتان أو في ظلم أو غيبة أو في نميمة أو في سخرية واستهزاء بأمر من الأمور ولا يتفطن لها، فيحكم عليه بالكفر والعياذ بالله.
ولأجل ذلك توعد الله الوعيد الشديد على السخرية بأهل الخير وبأهل الصلاح، وعدّها كفرًا، وكذلك السخرية والاستهزاء بآيات الله وبأحكامه وبشرائعه، فمن الأدلة: قول الله تعالى عن أهل النار: ﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنْ الأَشْرَارِ * اتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الأَبْصَارُ﴾ [ص:٦٢ - ٦٣]، يقولون: إننا كنا نستهزئ بالمتطوعين، نستهزئ بالمصلين، نستهزئ بأولئك الملتحين، نستهزئ ونسخر بأولئك المتدينين، ونعدهم أشرارًا ونعدهم فجارًا وضلالًا، واليوم لا نراهم عندنا في النار أين هم؟ أين ذُهب بهم؟ معلوم أنهم يحكون استهزاءهم بأهل الخير فيقولون: أين أولئك الذين كنا نعدهم من الأشرار؟ ونتخذهم سخريًا؟ ويقول الله تعالى: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [البقرة:٢١١ - ٢١٢].
(يسخرون من الذين آمنوا): يعني يستهزئون بالمؤمنين أو بالمتدينين أو بالصالحين، يسخرون بعباداتهم ويسخرون من أعمالهم، ويسخرون من زهدهم وتمسكهم يسخرون منهم.
فلذلك عاقبهم الله تعالى بأن أحل بهم غضبه وعذابه، وصاروا من أعدائه، وأولئك الذين استهزئ بهم صاروا من أولياء الله الذين أكرمهم بجزيل جزائه.
وهكذا أيضًا: حكى الله تعالى عن المنافقين أنهم يلمزون أهل الخير في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ [التوبة:٧٩]، ما أكثر الذين يلمزون المطوعين! يلمزونهم: يعيبونهم بالصلاة يعيبونهم برفع الثياب يعيبونهم بإرخاء اللحى وإعفائها يعيبونهم بترك الدخان يعيبونهم بترك الخمور، وما أشبهها.
وتلك شكاةٌ ظاهر عنك عارها هذه ليس فيها عليك عيبٌ إذا عابك مثل هؤلاء وتنقصوك، واعلم أن الذي يعيبك في تمسكك هو أولى بأن يكون معيبًا، فهؤلاء يعتبرون من المجرمين الذين ذمهم الله بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين:٢٩]، والذين آمنوا يراد بهم الذين حققوا الإيمان وعملوا الصالحات، وتركوا المحرمات، فالمجرمون يضحكون منهم ويستهزئون بهم: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾ [المطففين:٣٠ - ٣٣]، هكذا تكون حالتهم في الدنيا، وأما في الآخرة؛ فإن المؤمنين يضحكون منهم، عندما يرون أن حظهم كاسد، وأنهم هم الخاسرون.
وهكذا أيضًا: لا شك أن هذا الاستهزاء والسخرية بهؤلاء هو العيب الحقيقي؛ لأنهم أهل الطاعة وأهل الاستقامة، أما أولئك ماذا يتمدحون به؟ يتمدحون مثلًا: بشربهم للخمور، فهذا من المنكرات ومن المحرمات المتمكنة التي فشت وتمكنت في كثيرٍ من الناس، بحيث إنهم يبيتون كثيرًا من الليالي على شرب هذه المسكرات وتعاطيها، ولا ينتبهون إلا آخر الليل، وربما يفوت عليهم وقت أو أوقات وهم في سكر وسبات والعياذ بالله.
وقد وردت الأدلة الكثيرة في تحريم الخمر، وقد حرمها الله تعالى وذكر العلة في ذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة:٩٠]، فهؤلاء يعيبون أهل الخير وهم على هذه الحالة التي هي: تعاطيهم لهذه المسكرات والمخدرات وما أشبهها.
1 / 15