موقف الإمام أحمد من فتنة خلق القرآن وثباته
إن أمر الفتنة والمحنة التي وقعت للإمام أحمد هي أبرز صورة ومرحلة من مراحل حياته، بدأت في العام الثامن عشر بعد المائتين واستمرت إلى العام الرابع والثلاثين بعد المائتين، وابتلي فيها الإمام أحمد بصور شتى، كان منها: السجن، والضرب ومنها: أن يعلق من رجليه فيدلى رحمة الله عليه، وكان منها: أن يلف في بساط ويداس وهو في داخل البساط حتى يدمى رحمة الله عليه، وكان كالطود الشامخ؛ لأن عنده حجة مفحمة وبرهانًا قاطعًا أعيا به العقول وأخرس به الألسنة، ووقف الجميع أمامه لا يملكون إلا حجة الضعيف، وحجة الضعيف هي القوة والبطش، تلك الحجة التي أظهرها فرعون مع موسى، فإنه لما انقطعت حجته وحيلته قال: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء:٢٩] وهي الحجة التي قالها النمرود لما أعيته الحجة مع إبراهيم الخليل ﵇ فلذلك أذكر أولًا بعض المواقف والرؤى التي كانت قبل المحنة ذكرت في كتاب كامل عن محنة الإمام أحمد بن حنبل يقول أحدهم: رأى الإمام أحمد في المنام: كأن عليه بردة مخططة وكأنه بالرجل يريد المسير إلى الجامع يوم الجمعة، فاستعبرت بعض أهل التعبير؛ فقال: هذا يشتهر بالخير؛ قال: فما أتى عليه إلا قريب حتى ورد ما ورد من المحنة.
ويروى عن الإمام أحمد أنه قال: رأيت في المنام علي بن عاصم فأولت عليًا بالعلو، وعاصمًا عصمة من الله ﷿ فالحمد لله على ذلك، فعلا بين الناس ذكره، وعصمه الله ﷿ من الفتنة والمحنة، ومن عجيب ما كان عنده من الحجة مثل هذه المواقف، كان إذا أرادوه على شيء قال: ائتوني بشيء من كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، فكان بعضهم ربما جاء ببعض الآيات التي يستشهدون بها مثل قوله: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر:٦٢] أليس القرآن شيئًا؟ إذًا: فيكون مخلوقًا، هذه هي أصل فتنة خلق القرآن، فيقول لهم: يقول الله ﷿: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ [الأحقاف:٢٥] فدمرت كل شيء إلا ما أراد الله ﷿ فلا يكون هذا عمومًا مطلقًا، بل فيه ما هو مستثنىً بأمر الله ﷾، ويحتجون عليه باحتجاجات أخرى فإذا به يرد عليهم هذه المقالات كما احتجوا بقوله ﷾: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف:٣] فقالوا: أليس القرآن مجعولًا فإذًا هو مخلوق؛ فقال لهم: يقول الله ﷾: ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ [الفيل:٥] فهل معناها خلقهم كعصف مأكول، أو أن الجعل ما يصير إليه الشيء وينتهي إليه.
وذكروا له قوله تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ﴾ [الأنبياء:٢] والمحدث مخلوق، فقال لهم: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ [ص:١] فقال هنا: القرآن ذي الذكر هو القرآن، فهو معرف بأل، وأما (ذكر) غير المعرف فلا يراد به القرآن، فكلما جاءوه بحجة ألجمهم حجة أخرى، فما استطاعوا أن يظهروا عليه بالحجة، فأرادوا أن يكون ظهورهم عليه بالقوة والفتنة والمحنة.
9 / 14