مُقَدمَات
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة
حِين اطَّلَعت فِي دَار الْكتب المصرية على مخطوطة: "كتاب الدُّرَر فِي اخْتِصَار الْمَغَازِي وَالسير "لِابْنِ عبد الْبر" وَوجدت الزبيدِيّ اللّغَوِيّ تَملكهَا ووقفها مَعَ مَا وَقفه من الْكتب لانتفاع طلاب الْعلم بهَا. وَلَيْسَ ذَلِك فَحسب، فقد وجدت عَلَيْهَا تعليقات للعلامة المؤرخ شمس الدَّين السخاوي، حِينَئِذٍ عرفت أَنَّهَا مخطوطة نفيسة. وحاولت أَن أجد من الْكتاب مخطوطات أُخْرَى للمقابلة، وَلم يكْتب لي الظفر بِشَيْء من ذَلِك فاكتفيت بِأَن المخطوطة موثقة ومضيت أحققها وأعدها للنشر، مستعينا بِمَا وجدته من الْأُصُول الَّتِي ذكرهَا ابْن عبد الْبر فِي الْكتاب، وَأَيْضًا من الْفُرُوع الَّتِي استمدت مِنْهُ ونقلت عَنهُ، وَقد بسطت القَوْل فِي ذَلِك بمقدمة الطبعة الأولى.
ونشرت الْكتاب -بتحقيقي- لجنة إحْيَاء التراث الإسلامي بِالْمَجْلِسِ الْأَعْلَى للشئون الإسلامية فِي سنة ١٣٨٦ لِلْهِجْرَةِ، وَلم تكد تدخل سنة ١٣٩٠ حَتَّى كَانَت قد نفدت تِلْكَ النشرة. وَلم يلبث معهد المخطوطات بجامعة الدول الْعَرَبيَّة أَن عثر على مخطوطة مِنْهُ فِي الخزانة الْعَامَّة بالرباط، وبادر إِلَى تصويرها. وصورها لي مشكورا، ووجدتها مخطوطة مُتَأَخِّرَة رُبمَا رجعت إِلَى الْقرن الْحَادِي عشر الهجري، وَهِي بِخَط مغربي وَغير موثقة، وَبهَا بَيَاض فِي غير ورقة وَهُوَ وَاضح فِي ظهر الورقة الأولى المصورة فِي هَذِه الطبعة الثَّانِيَة، وَبهَا مَا لَا يكَاد يُحْصى من التصحيفات وسواقط الْكَلِمَات، وَلم أر إِثْبَات ذَلِك فِي الهوامش، إِذْ لَيْسَ فِي إثْبَاته فَائِدَة. ويتضح من مقدمتها أَنَّهَا ترجع إِلَى أم أُخْرَى غير أم المخطوطة الموثقة الَّتِي نشرتها فِي الطبعة الأولى، وَأَيْضًا فَإِنَّهَا تخْتَلف عَنْهَا بِزِيَادَات قَليلَة رَأَيْت إِثْبَاتهَا، كَمَا أثبت مِنْهَا بعض تصحيحات قَليلَة. ورمزت إِلَى تِلْكَ النُّسْخَة فِي الهوامش بالحرف "ر".
وَكنت قد لاحظت فِي المخطوطة الموثقة الَّتِي نشرتها أَنه تَتَرَدَّد فِي بعض صفحاتها كلمة "قلت" ويليها تعقيبات على كَلَام ابْن عبد الْبر، وَقد تُوضَع مَكَان كلمة "قلت" كلمة
1 / 3
"فَائِدَة" أَو كلمة "هَا هُنَا لَطِيفَة". وَذكر التعقيب فِي أمكنة قَليلَة بِدُونِ إِشَارَة تسبقه تدل على أَوله، غير أَنه يعلن دَائِما عَن نَفسه بِمَا يَنْتَهِي بِهِ من العلامات الدَّالَّة على انْتِهَاء التعقيب مثل: "عَاد الْكَلَام" أَو "يرجع الْكَلَام" أَو "وَالله أعلم" أَو "وَالْحَمْد لله" أَو "وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق". وَذكرت فِي مُقَدّمَة الطبعة الأولى أَن هَذِه التعقيبات إِمَّا أَنَّهَا كَانَت مَكْتُوبَة على هَامِش الأَصْل الَّذِي نقلت عَنهُ المخطوطة وأدمجها فِيهَا النَّاسِخ لَهَا، وَإِمَّا أَن يكون النَّاسِخ هُوَ الْعَالم الديني الَّذِي أضَاف تِلْكَ التعقيبات.
وَكَثِيرًا: مَا خشيت أَن يكون تقديري لبدء هَذِه التعقيبات ونهايتها غير دَقِيق، إِذْ كنت رَأَيْت فصلها عَن الْكتاب ووضعها فِي هوامشه، حَتَّى أُعِيد إِلَيْهِ نسقه الَّذِي صاغه بِهِ ابْن عبد الْبر. وَحين عرض صنيعي على النُّسْخَة الجديدة وجدتني مصيبا فِيمَا عدا مَوَاضِع قَليلَة ظَنَنْت فِيهَا أَحْيَانًا أَن التعقيب من متن الْكتاب، أَو أَنه لَيْسَ من مَتنه. وبالمعارضة على المخطوطة الجديدة رد الْكتاب فِي تِلْكَ الْمَوَاضِع إِلَى نسقه، وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ توكلت، وَإِلَيْهِ أنيب.
شوقي ضيف
الْقَاهِرَة فِي أول شعْبَان سنة ١٤٠٣هـ.
1 / 4
مُقَدّمَة الطبعة الأولى
الْمُؤلف
مؤلف هَذِه السِّيرَة النَّبَوِيَّة هُوَ أَبُو عمر يُوسُف١ بْن عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الْبر بن عَاصِم النمري، ولد بقرطبة فِي يَوْم الْجُمُعَة لخمس بَقينَ من ربيع الأول سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وثلاثمائة، وَنَشَأ فِي بَيت علم، إِذْ كَانَ أَبوهُ من فُقَهَاء قرطبة ومحدثيها، وَقد وَجهه مُنْذُ نعومة أَظْفَاره إِلَى الدراسات الدِّينِيَّة، وَتُوفِّي وَابْنه فِي الثَّالِثَة عشرَة من عمره، فدأب على الدَّرْس من بعده وَالسَّمَاع من جلة الْعلمَاء أَمْثَال أبي عمر المكوى، وَابْن الفرضي، وَعبد الْوَارِث بن سُفْيَان، وَخلف بن قَاسم، وَأبي مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بن عبد الْمُؤمن، وَسَعِيد بن نصر، وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان، وَأَحْمَدُ بْنُ قَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن التاهرتي، وَأحمد بْن مُحَمَّد بْن أَحْمد بن الجسور، وَأبي عمر الْبَاجِيّ، وَغَيرهم من أَعْلَام الْفِقْه والْحَدِيث والتاريخ والمغازي وَالْأَخْبَار والأنساب.
وَمَا نكاد نتقدم فِي الْقرن الْخَامِس الهجري حَتَّى يلمع اسْمه بَين نابهي الْعلمَاء بقرطبة، وسرعان مَا تفْسد الْحَيَاة فِيهَا وتشتعل الْفِتَن، وَيَأْخُذ صرح الدولة الأموية بهَا فِي الانقضاض، وَتقوم على أنقاضه إمارات لملوك الطوائف المعروفين فِي الأندلس، إِذْ تستقل كل بَلْدَة كَبِيرَة بإمارة وأمير. وطالت الْفِتَن بقرطبة، فهجرها كثير من علمائها، وشجعهم على الْهِجْرَة مِنْهَا الْأُمَرَاء الجدد، إِذْ مضوا يتنافسون فِي جمع الْعلمَاء والأدباء وَالشعرَاء بإماراتهم أَو بلدانهم، وارتحل فِيمَن ارتحلوا عَن قرطبة أَبُو عمر بن عبد الْبر ميمما بطليوس
_________
١ انْظُر فِي ابْن عبد الْبر جذوة المقتبس للحميدي "طبع الْقَاهِرَة" ص ٣٤٤، وَابْن بشكوال فِي الصِّلَة "طبعة الْقَاهِرَة" ص ٦١٦، والضبي فِي بغية الملتمس ص ٤٧٤، وَالْفَتْح بن خاقَان فِي المطمح ص ٦١، وَالْمغْرب لِابْنِ سعيد "طبع دَار المعارف" "٢/ ٤٠٧"، ووفيات الْأَعْيَان لِابْنِ خلكان "٧/ ٦٦ وَابْن فَرِحُونَ فِي الديباج الْمَذْهَب "الطبعة الأولى بِالْقَاهِرَةِ" ص ٣٥٧، والعماد فِي شذرات الذَّهَب "٣/ ٣٤٤ وَتَذْكِرَة الْحفاظ الذَّهَبِيّ "طبع حيدر أباد" ٣/ ٣٠٦، ومرآة الْجنان ٣/ ٨٩، والعبر فِي خبر من غبر "طبعة الكويت" ٣/ ٢٥٥.
1 / 5
فِي غربي الأندلس، حَيْثُ أمراؤها بَنو الْأَفْطَس، وَمَا كَاد يسْتَقرّ فِي حاضرتهم حَتَّى أكرموه غَايَة الْإِكْرَام، وولوه الْقَضَاء فِي بلدتي أشبونة وشنترين من بلدان إماراتهم. ويتحول إِلَى شَرْقي الأندلس وَينزل بلنسية ودانية، وَرُبمَا كَانَ مِمَّا حببه فِي الْأَخِيرَة مُجَاهِد الَّذِي كَانَ يمسك بمقاليد الحكم فِيهَا، فقد كَانَ مشاركا فِي عُلُوم الْقُرْآن والْحَدِيث كَمَا "كَانَ محبا للْعُلَمَاء محسنا لَهُم حَتَّى عرف بذلك بَلَده وَقصد من كل مَكَان". وَكَانَ لِابْنِ عبد الْبر ابْن أديب وَكَاتب بليغ، فوظفه مُجَاهِد فِي دواوينه، حَتَّى إِذا توفّي اتَّخذهُ ابْنه على "٤٣٦- ٤٦٨هـ" رَئِيسا لدواوينه وَكتابه. وَحدث أَن صدر عَنهُ برسالة إِلَى المعتضد صَاحب إشبيلية "٤٣٦- ٤٦١هـ" وبدلا من أَن يتلقاه لِقَاء حسنا حَبسه فِي سجنه، مِمَّا جعل أَبَاهُ يَقْصِدهُ مستعطفا بِمثل قَوْله:
قصدت إِلَيْك من شَرق لغرب ... لتبصر مقلتي مَا حل سَمْعِي
وتعطفك المكارم نَحْو أصل ... دعَاكُمْ رَاغِبًا فِي خير فرع
فَإِن جدتم بِهِ من بعد عَفْو ... فَلَيْسَ الْفضل عنْدكُمْ ببدع
وسرعان مَا رد المعتضد إِلَى ابْنه حُرِّيَّته وَعَاد إِلَى دانية. ولبى الابْن نِدَاء ربه فِي سنة ثَمَان وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة، وَلَعَلَّ ذَلِك هُوَ الَّذِي جعل أَبَاهُ يتَحَوَّل عَن دانية إِلَى شاطبة، وَبهَا يسلم روحه إِلَى بارئه فِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة عَن خَمْسَة وَتِسْعين عَاما.
وَهَذِه السن الْعَالِيَة جعلت ابْن عبد الْبر كَمَا شهد موت ابْنه يشْهد وَيسمع عَن موت كثيرين من تلاميذه مثل ابْن حزم، وَكَانَ يصغره بِنَحْوِ عشْرين عَاما، وَتُوفِّي قبله بِنَحْوِ سَبْعَة أَعْوَام. وَكَانَ يجنح فِي باكورة حَيَاته إِلَى مَذْهَب الظَّاهِرِيَّة أَتبَاع دَاوُد بن عَليّ الْأَصْبَهَانِيّ الَّذِي كَانَ يُنكر الرَّأْي فِي الْفِقْه والتشريع وَيَبْنِي أَحْكَامه على ظَاهر الْآيَات القرآنية وَالسّنة النَّبَوِيَّة. على أَنه لم يلبث أَن انتظم فِيمَا انتظم فِيهِ جُمْهُور أساتذته وَأهل موطنه من اعتناق مَذْهَب مَالك بن أنس. وَكَانَ فِيهِ اعْتِدَال جعله يمِيل إِلَى بعض آراء الشَّافِعِي الْفِقْهِيَّة. وَكَأَنَّهُ لم يكن يعرف التعصب والتحيز إِنَّمَا يعرف الْحق ويطلبه، فَإِذا استبان لَهُ انْقَادَ رَاضِيا.
وَيجمع من ترجموا لَهُ على الإشادة بِعِلْمِهِ وَرِوَايَته الغزيرة للْحَدِيث النَّبَوِيّ. وَفِيه يَقُول الْحميدِي تِلْمِيذه: "فَقِيه حَافظ مكثر عَالم بالقراءات وبالخلاف فِي الْفِقْه وبعلوم
1 / 6
الحَدِيث وَالرِّجَال، قديم السماع كثير الشُّيُوخ" وَيَقُول أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ: "لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر بن عبد الْبر فِي الحَدِيث" وَيَقُول ابْن بشكوال: "إِمَام عصره وَوَاحِد دهره. دأب فِي طلب الْعلم وافتن فِيهِ وبرع براعة فاق بهَا من تقدمه من رجال الأندلس" وَيَقُول ابْن سعيد نقلا عَن الحجاري: "إِمَام الأندلس فِي علم الشَّرِيعَة وَرِوَايَة الحَدِيث، لَا أستثني من أحد، وحافظها الَّذِي حَاز خصل السَّبق وَاسْتولى على غَايَة الأمد، وَانْظُر إِلَى آثاره، تعنك عَن أخباره".
وَقد سمع مِنْهُ عَالم عَظِيم حملُوا عَنهُ مصنفاته الَّتِي طارت شهرتها فِي عصره وَبعد عصره، مِنْهَا فِي الْفِقْه والْحَدِيث كتاب "التَّمْهِيد لما فِي الْمُوَطَّأ من الْمعَانِي والأسانيد" وَفِيه يَقُول ابْن حزم: "لَا أعلم فِي الْكَلَام على فقه الحَدِيث مثله فَكيف أحسن مِنْهُ؟! ". وَفِي دَار الْكتب المصرية قِطْعَة من هَذَا الْكتاب، وَقد اخْتَصَرَهُ ابْن عبد الْبر فِي كتاب سَمَّاهُ "التَّقَصِّي لما فِي الْمُوَطَّأ من حَدِيث رَسُولُ اللَّهِ ﷺ" وَمن كتبه فِي الْفِقْه والْحَدِيث أَيْضا: "الاستذكار لمذاهب فُقَهَاء الْأَمْصَار مِمَّا رسمه الإِمَام مَالك فِي الْمُوَطَّأ من مَعَاني الرَّأْي والْآثَار" نشر مِنْهُ بِالْقَاهِرَةِ جزآن بتحقيق الْأُسْتَاذ عَليّ النجدي. وَقد عَاد فَاخْتَصَرَهُ فِي كتاب دَعَاهُ: "الْكَافِي فِي الْفِقْه على مَذْهَب أهل الْمَدِينَة". وَمن كتبه فِي الْفِقْه: "اخْتِلَاف أَصْحَاب مَالك بن أنس وَاخْتِلَاف رواياتهم عَنهُ". وَمن كتبه فِي الْقرَاءَات وعلوم الْقُرْآن: "الْبَيَان عَن تِلَاوَة الْقُرْآن" و"التجويد والمدخل إِلَى الْعلم بالتحديد" و"الِاكْتِفَاء فِي قِرَاءَة نَافِع وَأبي عَمْرو بن الْعَلَاء بتوجيه مَا اخْتلفَا فِيهِ". وَمن كتبه "جَامع بَيَان الْعلم وفضله وَمَا يَنْبَغِي فِي رِوَايَته وَحمله" وَقد اخْتَصَرَهُ أَحْمد عمر المحمصاني الْبَيْرُوتِي وَنشر فِي مُجَلد لطيف. وَألف فِي السِّيرَة النَّبَوِيَّة كِتَابه الَّذِي ننشره: "الدُّرَر فِي اخْتِصَار الْمَغَازِي وَالسير" وعني بسير مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأبي حنيفَة وصنف فِيهَا "الانتقاء فِي فَضَائِل الثَّلَاثَة الْأَئِمَّة الْفُقَهَاء" وَهُوَ مطبوع. وَألف فِي الصَّحَابَة كِتَابه الضخم "الِاسْتِيعَاب" استقصى فِيهِ أَسمَاء الْمَذْكُورين مِنْهُم فِي الرِّوَايَات وَالْأَخْبَار وَعرف بهم ولخص أَحْوَالهم وأخبارهم مُرَتبا لَهُم على حُرُوف المعجم، وَهُوَ مطبوع. وَمن كِتَابه "الْقَصْد والأمم فِي التَّعْرِيف بأصول أَنْسَاب الْعَرَب والعجم" و"الإنباه على قبائل الروَاة" وهما مطبوعان مَعًا. وَكَانَت فِيهِ نَزعَة أدبية جعلته ينظم الشّعْر من حِين إِلَى حِين، كَمَا جعلته يؤلف كِتَابه "بهجة الْمجَالِس وَأنس الْمجَالِس" للمظفر بن الْأَفْطَس صَاحب بطليوس، وَهُوَ مختارات
1 / 7
من غرر الأبيات ونوادر الحكايات الدَّالَّة على مَكَارِم الْأَخْلَاق، وَقد طبع بِالْقَاهِرَةِ بتحقيق الْأُسْتَاذ الخولي وَيُنْهِي ابْن بشكوال حَدِيثه عَن مصنفاته بقوله: "كَانَ موفقا فِي التَّأْلِيف معانا عَلَيْهِ ونفع الله بتواليفه، وَكَانَ مَعَ تقدمه فِي علم الْأَثر، وبصره بالفقه ومعاني الحَدِيث، لَهُ بسطة كَبِيرَة فِي علم النّسَب وَالْخَبَر".
٢- مصَادر "الدُّرَر فِي اخْتِصَار الْمَغَازِي وَالسير".
ذكر ابْن عبد الْبر فِي خطْبَة هَذَا الْكتاب أَنه أفرده لسَائِر خبر رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي مبعثه وأوقاته مُعْتَمدًا على كتابي مُوسَى بن عقبَة فِي الْمَغَازِي، وَكتاب مُحَمَّد بن إِسْحَاق فِي السِّيرَة النَّبَوِيَّة، ومعروف أَن أَولهَا توفّي سنة ١٤١ لِلْهِجْرَةِ، فِي حِين توفّي الثَّانِي سنة ١٥٠ أَو ١٥١، فِي بعض الرِّوَايَات، وظل كتاباهما المصدرين الأساسيين لسيرة الرَّسُول ﷺ، على مدى العصور التالية، يرجع إِلَيْهِمَا المصنفون والمؤلفون للسيرة الزكية، حَتَّى إِذا طَال بهما الْعُمر سقطا من يَد الزَّمن كَمَا سقط كثير من المصنفات الْقَدِيمَة، إِلَّا قِطْعَة من سيرة ابْن إِسْحَاق لَا تزَال بَاقِيه بمكتبة الرِّبَاط، وَإِلَّا رِوَايَة ابْن هِشَام لَهَا. وَهِي لَيست رِوَايَة تَامَّة إِنَّمَا هِيَ تَهْذِيب وتنقيح لَهَا واختصار، وَلم يروها عَن ابْن إِسْحَاق مُبَاشرَة، إِنَّمَا رَوَاهَا عَن تِلْمِيذه زِيَاد بن عبد الله البكائي، وَقد طبعت فِي عصرنا مرَارًا.
وَيَقُول ابْن عبد الْبر: إِنَّه اختصر سيرته من كتاب ابْن إِسْحَاق رِوَايَة ابْن هِشَام وَغَيره، ويفصل القَوْل فِي ذَلِك فِي أثْنَاء حَدِيثه عَن حجَّة الْوَدَاع، قَائِلا: "مَا كَانَ فِي كتَابنَا هَذَا عَن ابْن إِسْحَاق فروايتنا فِيهِ عَن عَبْد الْوَارِث بْن سُفْيَان، عَن قَاسم بْن أصبغ، عَن مُحَمَّد بْن عَبْد السَّلَام الْخُشَنِي، عَن مُحَمَّد بْن البرقي، عَن ابْن هِشَام، عَن زِيَاد البكائي عَن مُحَمَّد بْن إِسْحَاق. وَقِرَاءَة مني أَيْضا على عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن يُوسُف، عَن ابْن مفرج، عَن ابْن الْأَعرَابِي، عَن العطاردي، عَن يُونُس بْن بكير، عَن ابْن إِسْحَاق. وَقِرَاءَة مني أَيْضا على عَبْد الْوَارِث بْن سُفْيَان، عَن قَاسم بْن أصبغ، عَن عبيد بْن عَبْد الْوَاحِد الْبَزَّار، عَن [أَحْمد بْن] مُحَمَّد بْن أَيُّوب، عَن إِبْرَاهِيم بْن سعد، عَن ابْن إِسْحَاق". وَإِذن فَهُوَ لم يكتف بِرِوَايَة ابْن هِشَام لكتاب ابْن إِسْحَاق، بل ضم إِلَيْهَا رِوَايَة يُونُس بن بكير، وبمكتبة الْقرَوِيين بفاس نُسْخَة مِنْهَا مخطوطة، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ ضم إِلَيْهَا رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن
1 / 8
سعد، وَبِذَلِك كَانَ بَين يَدَيْهِ ثَلَاث رِوَايَات لكتاب ابْن إِسْحَاق.
ويحدثنا ابْن عبد الْبر فِي نفس الْموضع أَن مَا كَانَ فِي كِتَابه عَن مُوسَى بن عقبَة فقرأه على عَبْد الْوَارِث بْن سُفْيَان وَأحمد بْن مُحَمَّد بْن أَحْمد بن الجسور، عَن قَاسم بْن أصبغ عَن مطرف بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن قيس، عَن يَعْقُوب، عَن ابْن فليح، عَن مُوسَى بْن عقبَة.
ويعقب على ذَلِك بقوله: "ولي فِي ذَلِك رِوَايَات وأسانيدُ مَذْكُورَة فِي صدر كتاب الصَّحَابَة" وَهُوَ يُرِيد كِتَابه: "الِاسْتِيعَاب فِي معرفَة الْأَصْحَاب". وَإِذا رَجعْنَا إِلَى فواتحه وَجَدْنَاهُ يَقُول إِن مَا فِيهِ عَن مُوسَى بْن عقبَة فَمن طَرِيقين: أَحدهمَا هَذَا الطَّرِيق الَّذِي ذكره، وَثَانِيهمَا عَن خلف بن قَاسم عَن أبي الْحسن عَن أبي الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن عبد الْغفار يعرف بِابْن الون الْمصْرِيّ، عَن جَعْفَر بن سُلَيْمَان النَّوْفَلِي، عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر الْحزَامِي، عَن مُحَمَّد بْن فليح، عَن مُوسَى بن عقبَة. وَلَا يلبث ابْن عبد الْبر أَيْضا أَن يَقُول: وحَدثني أَيْضا عبد الْوَارِث، عَن قَاسم، عَن ابْن أبي خَيْثَمَة فِي كِتَابه، عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر، عَن مُحَمَّد بْن فليح، عَن مُوسَى بن عقبَة. وَفِي نفس الْموضع يَقُول ابْن عبد الْبر: "وَفِي الفهرسة روايتنا لكتاب الْوَاقِدِيّ وَغَيره، تركنَا ذَلِك هَا هُنَا خشيَة الإطالة بِذكرِهِ". والفهرسة سجل أَو كتيب صَغِير ذكر فِيهِ رواياته الْكتب عَن شُيُوخه مفيضا فِي أسانيدها الْمُخْتَلفَة. وَذكر فِي فواتح الِاسْتِيعَاب رِوَايَته لكتابي الْوَاقِدِيّ: الطَّبَقَات والمغازي، أما الطَّبَقَات فَقَالَ: "قرأته على أَحْمد بن قَاسم التاهرتي، عَن مُحَمَّد بن مُعَاوِيَة الْقرشِي، عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن جميل، عَن مُحَمَّد بن سعد كَاتب الْوَاقِدِيّ، عَن الْوَاقِدِيّ". وَأما الْمَغَازِي فَقَالَ: "أَخْبرنِي بِهِ خلف عَن قَاسم، عَن أبي الْحسن، عَن أبي الْعَبَّاس بن الون، عَن جَعْفَر بن سُلَيْمَان النَّوْفَلِي، عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر الْحزَامِي، عَن الْوَاقِدِيّ".
وَيَقُول ابْن عبد الْبر فِي نفس الْموضع مكملا حَدِيثه عَن مصَادر كِتَابه: "وَفِي كتاب أبي بكر بْن أبي خَيْثَمَة- روايتي لَهُ عَن عَبْد الْوَارِث، عَن قَاسم، عَنهُ- من ذَلِك أَطْرَاف". وَيَقُول فِي فواتح الِاسْتِيعَاب: "قَرَأت جَمِيع كتاب ابْن أبي خَيْثَمَة على أبي الْقَاسِم عبد الْوَارِث بن سُفْيَان بن حبرون، عَن أبي مُحَمَّد قَاسم بن أصبغ بن يُوسُف الشَّيْبَانِيّ، عَن ابْن أبي خَيْثَمَة أبي بكر أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ" وَفِي الْكتاب أَحَادِيث مُخْتَلفَة رويت عَن ابْن أبي خَيْثَمَة بالسند الْمَذْكُور. وَيظْهر أَنه كَانَ لَهُ كتاب فِي السّنَن بِجَانِب كِتَابه التَّارِيخ الْكَبِير فِي تَعْدِيل الروَاة وتجريحهم.
1 / 9
وَهَذِه هِيَ المصادر الَّتِي عَنى ابْن عبد الْبر بذكرها، وَلَا ريب فِي أَن وَرَاءَهَا مصَادر أُخْرَى لم يعن بإيرادها، من ذَلِك أَنه يروي أَكثر الْأَحَادِيث فِي هَذِه السِّيرَة عَن أبي مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بن عبد الْمُؤمن، وَفِيه يَقُول الْحميدِي: "رَحل إِلَى الْعرَاق وَغَيرهَا وَسمع إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الصفار، وَأَبا بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ بْنِ عبد الرَّزَّاق الْمَعْرُوف بِابْن داسة صَاحب أبي دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ، وَأَبا بكر أَحْمد بن جَعْفَر بن مَالك الْقطيعِي صَاحب عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل، وَأحمد بن سُلَيْمَان النجاد، وَمُحَمّد بن عُثْمَان بن ثَابت الصيدلاني صَاحب إِسْمَاعِيل القَاضِي وَنَحْو، وَحدث بالأندلس، روى لنا عَنهُ أَبُو عمر بن عبد الْبر الْحَافِظ". فرواية ابْن عبد الْبر تتصل بِهِ بِشَهَادَة الْحميدِي تِلْمِيذه، وَنَفس الْأَحَادِيث وَالْأَخْبَار الَّتِي يَرْوِيهَا عَنهُ تتصل مُبَاشرَة بِابْن داسة عَن أبي دَاوُد السجسْتانِي.
وبجانب ابْن عبد الْمُؤمن نجد ابْن عبد الْبر يروي أَحَادِيث وأخبارا أُخْرَى عَن سعيد بن نصر، وَفِيه يَقُول الْحميدِي: "سمع قَاسم بن أصبغ الْبَيَانِي وَمُحَمّد بن مُعَاوِيَة الْقرشِي.
وروى عَنهُ الْفَقِيه الْحَافِظ أَبُو عمر يُوسُف بْن عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بن عبد الْبر" وَسَنَده فِي السِّيرَة يتَّصل بشيخه قَاسم. ونجد أَيْضا مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم وَيَقُول الْحميدِي إِنَّه: "يعرف ابْن المدمالة، روى عَن مُحَمَّد بن مُعَاوِيَة الْقرشِي ... وروى عَنهُ أَبُو عمر بن عبد الْبر النمري" وَقَالَ: كَانَ من أضبط النَّاس لكتبه وأفهمهم لمعاني الرِّوَايَة، لَهُ تأليف جمع فِيهِ كَلَام يحيى بن معِين "الْمُحدث" فِي ثَلَاثِينَ جُزْءا أخبرنَا بِهِ أَبُو عمر بن عبد الْبر عَنهُ" "وَسَنَده فِي السِّيرَة يتَّصل مُبَاشرَة بِمُحَمد بن مُعَاوِيَة الْقرشِي.
وسَاق ابْن عبد الْبر فِي "بعث بِئْر مَعُونَة" حَدِيثا عَن أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّد بن عَليّ وَهُوَ أَبُو عمر الْبَاجِيّ، وَفِيه يَقُول الْحميدِي: "روى عَنهُ جمَاعَة أكَابِر أدركنا مِنْهُم الْفَقِيه أَبَا عمر يُوسُف بْن عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الْبر الْحَافِظ" وَيذكر الْحميدِي من شُيُوخ الْبَاجِيّ الْحسن بن إِسْمَاعِيل. وَسَنَد الحَدِيث الَّذِي ذكره ابْن عبد الْبر عَن الْبَاجِيّ مَوْصُول بِهِ مُبَاشرَة. وَذكر مَعَ بعض الْأَخْبَار سعيد بن يحيى الْأمَوِي، وَكَأن كِتَابه "السّير" كَانَ أحد مصادره.
وَقد يختصر ابْن عبد الْبر سَنَد الحَدِيث وَالْخَبَر، فَلَا يذكر سلسلة رواتهما كَامِلَة، بل يَكْتَفِي بِمثل قَوْله: روى عَن عبَادَة بْن الصَّامِت، أَو قَالَ ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ أَو قَالَ
1 / 10
معمر، أَو ذكر ابْن جريج، أَو روى سُفْيَان الثَّوْريّ، أَو قَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، أَو قَالَ سنيد، أَو قَالَ وَكِيع.
٣- تَوْثِيق النَّص وَقِيمَته
ذكر الْحميدِي فِي تَرْجَمته لِابْنِ عبد الْبر أَنه صنف فِيمَا صنف كتاب "الدُّرَر فِي اخْتِصَار الْمَغَازِي وَالسير" وتوالى غير وَاحِد بعده مِمَّن ترجموا لِابْنِ عبد الْبر يذكرُونَهُ بَين مصنفاته. وَقد رَأينَا فِي تضاعيف الْكتاب مَا يشْهد شَهَادَة قَاطِعَة بِأَنَّهُ من تأليفه، فقد ذكر -كَمَا أسلفنا- طرفنا من أسانيده عَن كتب مُوسَى بن عقبَة وَابْن إِسْحَاق وَابْن أبي خَيْثَمَة، وأحال من يُرِيد استكمالها على كِتَابه "الِاسْتِيعَاب فِي معرفَة الْأَصْحَاب" وَهِي فِيهِ أَكثر تَفْصِيلًا.
وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْموضع الوحيد الَّذِي أحَال فِيهِ على الِاسْتِيعَاب فِي الْكتاب، فقد تَكَرَّرت إحالته عَلَيْهِ، إِذْ نجده يذكرهُ فِي خطْبَة الْكتاب على نَحْو مَا سنرى عَمَّا قَلِيل. وَقد توقف عِنْد قَول الْقَائِلين بِأَن عليا كَانَ أول النَّاس إِيمَانًا بِاللَّه وَرَسُوله قَائِلا: "وَقد ذكرنَا الْقَائِلين بذلك والآثارَ الْوَارِدَة فِي بَابه من كتاب الصَّحَابَة". وَيذكر فِي تَسْمِيَته من شهد بَدْرًا من الْمُهَاجِرين خباب بن الْأَرَت، وَيَقُول إِنَّه خزاعي وَيُقَال تميمي، ويعقب على ذَلِك بقوله: "وَقد ذكرنَا الِاخْتِلَاف فِي نسبه وولائه وحلفه فِي بَاب اسْمه من كتاب الصَّحَابَة".
وَيذكر بَين من اسْتشْهد من الْمُهَاجِرين فِي يَوْم أحد عبد الله بن جحش وَأَنه دفن مَعَ حَمْزَة فِي قبر وَاحِد، ثمَّ يَقُول: "وَقد ذكرنَا خَبره عِنْد ذكره فِي كتاب الصَّحَابَة". ويتحدث عَن بعث الرجيع وَقتل خبيب فِيهِ، وَيَقُول: "وَقد ذكرنَا خَبره وَمَا لَقِي بِمَكَّة عِنْد ذكر اسْمه فِي كتاب الصَّحَابَة" ويسوق لَهُ بَيْتَيْنِ قالهما حِين قدمه الْمُشْركُونَ ليصلب ويتلوهما بقوله: "فِي أَبْيَات قد ذكرتها عِنْد ذكره فِي كتاب الصَّحَابَة". وعدتها فِيهِ عشرَة أَبْيَات. وَيَقُول فِي غَزْوَة فتح مَكَّة: "وَأنْشد الرَّسُول عَمْرو بْن سَالم الشّعْر الَّذِي ذكرته فِي بَابه من كتاب الصَّحَابَة". وَيذكر فِي بَاب الْوُفُود الحتات بن يزِيد الْمُجَاشِعِي الَّذِي آخى الرَّسُول بَينه وَبَين مُعَاوِيَة، وَيَقُول: "قد ذكرنَا خَبره فِي بَابه من كتاب الصَّحَابَة". ويتحدث عَن غسل الرَّسُول وتكفينه بعد مَوته، وَيَقُول: إِن شقران مَوْلَاهُ حضرهم "وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ كِتَابِ
1 / 11
الصَّحَابَةِ سُؤَالَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى". وَلم يحل ابْن عبد الْبر على الِاسْتِيعَاب وَحده من كتبه، فقد أحَال أَيْضا على كِتَابه "التَّمْهِيد لما فِي الْمُوَطَّأ من الْمعَانِي والأسانيد" إِذْ عقب على حالات الْوَحْي فِي مفتتح الْكتاب بقوله: "وَقد أشبعنا هَذَا الْمَعْنى فِي كتاب التَّمْهِيد عِنْد ذكر حَدِيث عَائِشَة ﵂ الْمَذْكُور". وتحدث فِي خَاتِمَة الْكتاب عَن صَلَاة أبي بكر بِالنَّاسِ فِي مرض الرَّسُول ﷺ، وَقَالَ: "وَقد أوضحنا مَعَاني صلَاته فِي مَرضه بِالنَّاسِ مَعَ أبي بكر وَمَكَان الْمُقدم مِنْهُمَا، وَمَا يَصح فِي ذَلِك عندنَا فِي كتاب التَّمْهِيد". وَمر بِنَا تعقبنا لمن روى عَنْهُم ابْن عبد الْبر الْأَحَادِيث وَالْأَخْبَار فِي هَذِه السِّيرَة مِمَّن لم يذكرهم فِي أسانيده لكتب ابْن عقبَة وَابْن إِسْحَاق وَابْن أبي خَيْثَمَة، ورأيناهم جَمِيعًا فِي عداد أساتذته الَّذين روى عَنْهُم، بِشَهَادَة تِلْمِيذه الْحميدِي.
وكل ذَلِك مَعْنَاهُ أَن نِسْبَة هَذِه السِّيرَة إِلَى ابْن عبد الْبر نِسْبَة وَثِيقَة، ونراه يَقُول فِي خطبتها أَو فاتحتها: "هَذَا كتاب اختصرت فِيهِ ذكر مبعث النَّبِي ﷺ وَابْتِدَاء نبوته وَأول أمره فِي رسَالَته ومغازيه وسيره فِيهَا، لِأَنِّي ذكرت مولده وحاله فِي نشأته وعيونا من أخباره فِي صدر كتابي فِي الصَّحَابَة، وأفردت هَذَا الْكتاب لسَائِر خَبره فِي مبعثه وأوقاته ﷺ ... والنسق كُله على مَا رسمه ابْن إِسْحَاق. فَذكرت مَغَازِيَهُ وسيره على التَّقْرِيب والاختصار والاقتصار على الْعُيُون من ذَلِك دون الحشو والتخليط".
وواضح من ذَلِك أَن ابْن عبد الْبر قصد فِي هَذَا الْكتاب إِلَى صنع مُخْتَصر للسيرة النَّبَوِيَّة، وَعبر عَن مقْصده لَا فِي خطْبَة الْكتاب فَحسب، بل أَيْضا فِي عنوانه الَّذِي اخْتَارَهُ لَهُ، وكأنما رَأْي كتب السِّيرَة تحتوي على حَشْو كثير، فَرَأى أَن يَكْتَفِي بالدرر والفرائد الَّتِي تجْعَل مِنْهَا خيطا ممدودا مُتَّصِلا. وَقد بَدَأَ هَذَا الْمُخْتَصر بالمبعث وَمَا بعده من الْمَغَازِي والأحداث، أما مَا قبل ذَلِك من ولادَة الرَّسُول وَنسبه ووفاة أَبِيه وَأمه وجده وكفالة أبي طَالب ونشأته وأطواره قبل الْبعْثَة وزواجه بالسيدة خَدِيجَة فقد أجمله فِي صدر كِتَابه:
"الِاسْتِيعَاب فِي معرفَة الْأَصْحَاب" وَكَأَنَّهُ رأى أَن لَا دَاعِي لتكرار حَدِيثه عَنهُ. وَيَقُول إِنَّه بنى الْكتاب على مَا رسمه ابْن إِسْحَاق، والتقاؤه بِهِ وَاضح فِي الْمَغَازِي وتواليها وَأَسْمَاء من شاركوا واستشهدوا من الْمُسلمين فِيهَا وَمن قتلوا أَو أَسرُّوا من الْمُشْركين. وَإِذا كَانَ قد تَابع ابْن إِسْحَاق فِي الْبناء الْعَام فَإِنَّهُ اسْتَقل عَنهُ فِي كثير من الْمَوَاضِع بِمَا أضَاف من كتابي مُوسَى
1 / 12
ابْن عقبَة وَابْن أبي خَيْثَمَة، وَمن رِوَايَات أساتذته الَّذين سميناهم، فقد استمد مِنْهُم كثيرا من الْأَحَادِيث، وَإِذا عرفنَا أَنه كَانَ من كبار الْحفاظ للْحَدِيث النَّبَوِيّ الَّذين اشتهروا بالدقة والتحري والتثبت، وَأَنه كَانَ حاذقا بِعلم الْأَنْسَاب وَمَعْرِفَة الْأَصْحَاب، وَضبط أسمائهم على وَجههَا الصَّحِيح اتضحت قيمَة هَذِه السِّيرَة. وَهُوَ نَفسه يحدثنا أَنه لم يكتف إزاء كتاب مُوسَى بن عقبَة وسيرة ابْن إِسْحَاق بِرِوَايَة وَاحِدَة، بل اسْتَعَانَ برواياتهما الْمُخْتَلفَة على الْمُقَارنَة والموازنة، وأضاف إِلَى ذَلِك كتابات الْوَاقِدِيّ وَابْن أبي خَيْثَمَة وَرِوَايَات شُيُوخه للْحَدِيث، وَنفذ من كل ذَلِك إِلَى وضع سيرة نبوية وَثِيقَة.
وَقد يبتديء بعض فُصُول الْكتاب دون سَنَد، وَكَأَنَّهُ يُورد حِينَئِذٍ مَا اسْتَقر عَلَيْهِ رَأْيه بعد طول النّظر والفحص والمراجعة والمقارنة. ونراه ينثر بعض آراء لَهُ فِي جَوَانِب السِّيرَة، وَهِي آراء علم من أَعْلَام الْفِقْه والْحَدِيث، وَلذَلِك كَانَ لَهَا وَزنهَا الْكَبِير مهما خَالَفت مَا ذاع واشتهر، على نَحْو مَا يَلْقَانَا فِي حَدِيثه عَن أَوَائِل السَّابِقين إِلَى الْإِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله، فقد ذكر من بَينهم السيدة عَائِشَة بنت أبي بكر الصّديق، وَقيد ذَلِك بقوله: "وَهِي صَغِيرَة" وَفِي ذَلِك مَا يُخَالف الْمَشْهُور من أَن الرَّسُول ﷺ بنى بهَا فِي الْمَدِينَة وَهِي بنت تسع سِنِين، وَلَا بُد أَنه ثَبت عِنْد ابْن عبد الْبر أَن السيدة عَائِشَة أسلمت فِي أول الْبعْثَة أَي قبل الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة بِنَحْوِ ثَلَاث عشرَة سنة، مِمَّا يَقْتَضِي أَن تكون سنّهَا حِين الْبعْثَة خمس سنوات على الْأَقَل حَتَّى يصدق عَلَيْهَا أَنَّهَا كَانَت من أول النَّاس إسلاما، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا جَاءَ فِي صَحِيح البُخَارِيّ فِي تَفْسِير سُورَة اقْتَرَبت أَي سُورَة الْقَمَر من قَول السيدة عَائِشَة ﵂" لقد أنزل على مُحَمَّدٍ ﷺ بِمَكَّة -وَإِنِّي لجارية أَلعَب- ﴿بل السَّاعَة موعدهم والساعة أدهى وَأمر﴾ وَهِي من آيَات سُورَة الْقَمَر الَّتِي نزلت فِي السّنة الْخَامِسَة لِلْهِجْرَةِ، وتعبيرها بِأَنَّهَا كَانَت جَارِيَة تلعب يُفِيد أَن عمرها لم يكن يقل حِينَئِذٍ عَن نَحْو عشر سنوات. وَمن ذَلِك أَنه ذهب إِلَى أَن فرض صَوْم رَمَضَان كَانَ فِي السّنة الأولى لِلْهِجْرَةِ، وَالْمَشْهُور أَنه كَانَ على رَأس ثَمَانِيَة عشر شهرا من الْهِجْرَة. وَمن ذَلِك ذَهَابه فِي حَدِيثه عَن مقاسم خَيْبَر وأموالها أَنَّهَا فتحت جَمِيعهَا عنْوَة، وَقد ناقشه فِي ذَلِك ابْن سيد النَّاس مناقشة طَوِيلَة أثبتنا مجملها فِي موضعهَا من الْكتاب. ونراه يتَوَقَّف عِنْد بعض الْأَحَادِيث الَّتِي لم تثبت، ويتهمها، من ذَلِك مَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود من أَحَادِيث عَن إِسْلَام الْجِنّ، وَمَا جَاءَ فِي بَعْضهَا
1 / 13
من وضوء الرَّسُول بالنبيذ، إِذْ لم يجد مَاء، فقد قَالَ: "هَذَا الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ متواتر عَن طُرُقٍ شَتَّى حِسَانٍ كُلِّهَا، إِلا حَدِيثَ أَبِي زَيْدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ، فَإِنَّ أَبَا زيد مَجْهُول لَا يعرف فِي أَصْحَاب ابْن مَسْعُود، وَيَكْفِي فِي ذكر الْجِنّ مَا فِي سُورَة الرَّحْمَن وَسورَة ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ﴾ وَمَا جَاءَ فِي الْأَحْقَاف: قَوْله: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُون الْقُرْآن﴾ الْآيَات. وَهُوَ بذلك يُرِيد التَّمَسُّك بِنَصّ الْقُرْآن الْكَرِيم دون زِيَادَة عَلَيْهِ، وَمِمَّا يصور دقته وتحريه قَوْله فِي غَزْوَة بنى المصطلق أَو الْمُريْسِيع: "وَفِي هَذِه الْغَزْوَة قَالَ أهل الْإِفْك فِي عَائِشَة ﵂ مَا قَالُوا، فبرأها اللَّه مِمَّا قَالُوا، وَنزل الْقُرْآن ببراءتها، وَرِوَايَة من روى أَن سعد بْن معَاذ رَاجع فِي ذَلِك سعد بْن عبَادَة، وهم وَخطأ، وَإِنَّمَا تراجع فِي ذَلِك سعيد بْن عبَادَة مَعَ أسيد بْن حضير. كَذَلِك ذكر ابْن إِسْحَاق عَنِ الزُّهْرِيِّ عَن عبيد الله بْن عَبْد اللَّهِ وَغَيره، وَهُوَ الصَّحِيح؛ لِأَن سعد بْن معَاذ مَاتَ فِي منصرف رَسُول اللَّه ﷺ مِنَ بني قُرَيْظَة لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِك، وَلم يدْرك غَزْوَة الْمُريْسِيع وَلَا حضرها".
نَحن إِذن بِإِزَاءِ سيرة نبوية محررة، سيرة لَا تعتمد على كتب السِّيرَة الْمَشْهُورَة وَحدهَا، بل تعتمد أَيْضا على كتب الحَدِيث وَرِوَايَة الموثقين مَعَ الموازنة بَين الْأَخْبَار وَالْأَحَادِيث واستخلاص الآراء الصَّحِيحَة، وَمَعَ الْوَفَاء بالدقة فِي أَسمَاء الْأَعْلَام، وَمَعَ التَّوَقُّف فِي مَوضِع التَّوَقُّف والنفوذ إِلَى الرَّأْي السَّلِيم، وَمَعَ الْمعرفَة الواسعة بِالْحَدِيثِ وَرِجَاله وتمييز صَحِيحه من زائفه.
وَبلغ من قيمَة هَذِه السِّيرَة وأهميتها فِي عصرها أَن وَضعهَا ابْن حزم -تلميذ ابْن عبد الْبر- علما مَنْصُوبًا أَمَام بَصَره حِين حاول أَن يصنف سيرته النَّبَوِيَّة الَّتِي سَمَّاهَا "جَوَامِع السِّيرَة" وَقد نشرت بدار المعارف نشرة جَيِّدَة مُحَققَة عَن نُسْخَة يكثر فِيهَا التَّصْحِيف، كَمَا تكْثر سواقط الْكَلَام. ونراه يستهلها بِقِطْعَة موجزة يتحدث فِيهَا عَن نسب رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ومولده وسنه ووفاته وأعلام رسَالَته وحجه وعمراته وغزواته وبعوثه وَصفته وأسمائه وأمرائه وَكتابه وحرسه ومؤذنيه وخطبائه وشعرائه وَرُسُله ودعوته بعض الْمُلُوك إِلَى الْإِسْلَام ونسائه وَأَوْلَاده وشيمه وأخلاقه. وَهُوَ فِي هَذِه الْقطعَة لَا يلتقي بِابْن عبد الْبر فِي سيرته، لِأَنَّهُ كَمَا قدمنَا لم يعرض لكل ذَلِك مكتفيا بِمَا جَاءَ مِنْهُ فِي صدر كتاب "الِاسْتِيعَاب" غير أننا لَا نكاد
1 / 14
نتقدم مَعَ ابْن حزم حَتَّى نجده يلتقي مَعَ ابْن عبد الْبر فِي أَكثر صحفه، وتنبه إِلَى هَذَا الالتقاء ناشرو سيرة ابْن حزم قائلين:
"وَقد أَفَادَ ابْن حزم فِي كِتَابه السِّيرَة مِمَّا صنعه من قبله شَيْخه ومعاصره أَبُو عمر بن عبد الْبر مؤلف كتاب "الدُّرَر فِي اخْتِصَار الْمَغَازِي وَالسير" وَنحن لَا نملك من هَذَا الْكتاب صُورَة كَامِلَة أَو وافية تدلنا إِلَى أَي مدى اعْتمد عَلَيْهِ ابْن حزم، وَلَكِن النقول القليلة الَّتِي احتفظ بهَا ابْن سيد النَّاس من كتاب أبي عمر الْمَذْكُور تؤكد أَن ابْن حزم قد نقل عَن شَيْخه نقولا مُتَفَرِّقَة فِي شَيْء قَلِيل من التَّصَرُّف، إِلَّا أَن نفترض أَن المؤلفين- نعني ابْن عبد الْبر وَابْن حزم- ينقلان عَن مصدر ثَالِث لم يَقع إِلَيْنَا".
وَلَو أَن ناشري الْكتاب رَأَوْا مخطوطة كتاب ابْن عبد الْبر لجزموا بِأَن ابْن حزم نقل عَنهُ مُنْذُ حَدِيثه عَن المبعث ص ٤٤ أَكثر صحف كِتَابه مَعَ تصرف قَلِيل هُنَا وَهُنَاكَ. أما الظَّن بِأَنَّهُمَا رُبمَا نقلا عَن مصدر مُشْتَرك فيضعفه أَن ابْن عبد الْبر عين فِي سيرته مصادره الَّتِي نفذ من خلالها إِلَى وضع كِتَابه، فِي حِين لم يذكر ابْن حزم فِيمَا التقى بِهِ مَعَه مصدرا وَاحِدًا. وَحقا أَنه يُتَابع فِي حَدِيثه الْمفصل عَن الْغَزَوَات ابْن إِسْحَاق، سَوَاء فِي ترتيبها أَو فِيمَا تضمنته من الْأَحْدَاث وَمن أَسمَاء من شاركوا فِيهَا من الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين وشهداء الْأَوَّلين وقتلى وَأسرى الْأَخيرينِ، غير أَنه فِي الْوَاقِع يُتَابع فِي ذَلِك ابْن عبد الْبر، فقد مر بِنَا ذكره فِي تَقْدِيمه لكتابه هَذِه الْمُتَابَعَة، وَابْن حزم لَا يُتَابع ابْن عبد الْبر فِي نسق كِتَابه وَمَا تضمنه من الْأَحْدَاث وَأَسْمَاء الْأَعْلَام فَحسب، بل كثيرا مَا يُتَابِعه فِي سرد كَلَامه نَاقِلا نَص عباراته مَعَ شَيْء من التَّصَرُّف أَحْيَانًا، وَقد يتْرك النَّص الَّذِي يَنْقُلهُ عَن أستاذه دون أَي تصرف. ونراه يُتَابِعه فِي كثير من مراجعاته وآرائه، حَتَّى ليظن من لم يقْرَأ ابْن عبد الْبر أَنَّهَا ثَمَرَة اجْتِهَاده، من ذَلِك مُتَابَعَته لَهُ فِي أَن أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ لَا يَصح أَن يسْلك فِيمَن هَاجر من مَكَّة إِلَى أَرض الْحَبَشَة، يَقُول ابْن عبد الْبر: "وَقد جَاءَ فِي بعض الْأَثر وَقَالَهُ بعض أهل السّير "انْظُر ابْن إِسْحَاق فِي السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِابْنِ هِشَام "١/ ٣٤٧" أَن أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ كَانَ فِيمَن هَاجر إِلَى أَرض الْحَبَشَة وَلَيْسَ كَذَلِك، وَلكنه خرج فِي طَائِفَة من قومه مُهَاجرا من بَلَده بِالْيمن يُرِيد الْمَدِينَة. فَرَكبُوا الْبَحْر، فرمتهم الرّيح بالسفينة الَّتِي كَانُوا فِيهَا إِلَى أَرض الْحَبَشَة، فَأَقَامَ هُنَالك حَتَّى قدم مَعَ جَعْفَر بن أبي طَالب" وقارن بذلك جَوَامِع السِّيرَة ص ٥٨. وَمن مُتَابعَة ابْن حزم لأستاذه مَا ذهب إِلَيْهِ من أَن الزَّكَاة فرضت عقب الْهِجْرَة ومؤاخاة
1 / 15
الرَّسُول ﷺ بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار "قَارن بجوامع السِّيرَة "ص ٩٧". وَقد تَابعه فِي أَن من شهد بَدْرًا من الْمُهَاجِرين كَانُوا سِتَّة وَثَمَانِينَ رجلا "قَارن بجوامع السِّيرَة ص ١٢٢" فِي حِين عدهم ابْن إِسْحَاق فِي السِّيرَة "٢/ ٣٦٤ ثَلَاثَة وَثَمَانِينَ. وَمر بِنَا آنِفا نفي ابْن عبد الْبر لِأَن تكون قد حدثت مُرَاجعَة فِي حَدِيث الْإِفْك بَين سعدَ بْن معَاذ وسعدَ بْن عبَادَة لمَوْت ابْن معَاذ قبل الْحَادِث. "قَارن بجوامع السِّيرَة ص ٢٠٧".
وَهَذَا التطابق بَين سيرة ابْن حزم وسيرة ابْن عبد الْبر فِي الآراء وسرد الْأَعْلَام وعبارات النَّص جعلتنا نتَّخذ من أَكْثَرهَا مَا يشبه نُسْخَة ثَانِيَة من كتاب ابْن عبد الْبر. وَقد انتفعنا بهَا فِي تَصْحِيح مَا جَاءَ فِي نسختنا من بعض التصحيفات وَمن بعض نواقص الْكَلَام.
وَلَا نشك فِي أَنه لَو كَانَ بأيدي ناشريها مخطوطة كتاب ابْن عبد الْبر لأصلحوا وَقومُوا نَص نسختهم الَّتِي نشرُوا مِنْهَا كتاب ابْن حزم فِي مَوَاضِع كَثِيرَة، وَحقا بذلوا جهدا قيمًا فِي تقويمه ورد كثير من سواقطه إِلَى موَاضعهَا من اتِّصَال الْكَلَام، وَلَكِن ظلت بَقِيَّة يهدي إِلَيْهَا كتاب ابْن عبد الْبر، يتَّصل بَعْضهَا بتصحيف بعض الْأَلْفَاظ، وَبَعضهَا يتَّصل بِسُقُوط بعض أَسمَاء الْأَعْلَام حِين تتوالى متعاقبة، فَمن ذَلِك مَا جَاءَ فِي ص ٦٩ عَن قدوم بعض الْأَنْصَار غلى مَكَّة قبل الْهِجْرَة يطْلبُونَ الْحلف من قُرَيْش، فقد جرت الْعبارَة على هَذَا النَّحْو: "ثمَّ قدم إِلَى مَكَّة أَبُو الحيسر أنيس بن رَافع فِي مائَة من قومه" وَصِحَّة الْعبارَة فِي ابْن عبد الْبر" "وَقدم مَكَّة أَبُو الحيسر أنس بْن رَافع فِي فتية من قومه" وَانْظُر ابْن إِسْحَاق فِي السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِابْنِ هِشَام ص ٦٩. ونقرأ فِي ص ٨٨: "ثمَّ إِن أَبَا جهل والْحَارث بن هِشَام أَتَيَا الْمَدِينَة وَكلما عَيَّاش بْن أبي ربيعَة وَكَانَ أخاهما لِأُمِّهِمَا وَابْن عمتهما" وَفِي ابْن عبد الْبر: "وَكَانَ أخاهما لأمهمها وَابْن عَمهمَا" وَهُوَ تَصْحِيف وَاضح. وَفِي نفس الصفحة يسْرد ابْن حزم عَن ابْن عبد الْبر من قدمُوا الْمَدِينَة مُهَاجِرين مَعَ عمر بن الْخطاب، وَيسْقط من كَاتب النُّسْخَة اسْم "إِيَاس وعاقل وعامر وخَالِد بَنو البكير اللَّيْثِيّ حلفاء بني عدي بْن كَعْب" وَيكثر فِي سيرة ابْن حزم المنشورة، أَو بِعِبَارَة أدق فِي نسختها الَّتِي نشرت، سُقُوط مثل هَذِه الْأَسْمَاء المتوالية وَيُمكن دَائِما إكمالها من ابْن عبد الْبر، وَيَكْفِي أَن نمثل بمثال ثَان فِي الصفحة التالية، إِذْ جَاءَ فِيهَا: "وَنزل حَمْزَة بن الْمطلب وَحَلِيفه أَبُو مرْثَد كناز بن حُصَيْن الغنوي وَزيد بن حَارِثَة الْكَلْبِيّ مولى رَسُول اللَّه ﷺ على كُلْثُوم بْن الْهدم" وصحتها فِي ابْن عبد الْبر: "وَنزل حَمْزَة بْن عَبْد الْمطلب وحليفاه: أَبُو مرْثَد الغنوي وَابْنه مرْثَد بْن
1 / 16
أبي مرْثَد، وَزيد بْن حَارِثَة وأنسة وَأَبُو كَبْشَة موَالِي رَسُول اللَّهِ ﷺ على كُلْثُوم بن الْهدم". وَفِي ص ١٠٦ أَن أَبَا سعيد بن الْمُعَلَّى "سمع رَسُول اللَّه ﷺ [يَأْمر] بتحويل الْقبْلَة". وَقد جعلت كلمة يَأْمر بَين قوسي الزِّيَادَة إِشَارَة إِلَى أَنَّهَا سَقَطت من الأَصْل، وَفِي ابْن عبد الْبر مَكَانهَا كلمة يخْطب. وَفِي ص ١١٢ "عرض الرَّسُول على أَصْحَابه "فِي وقْعَة بدر" مصَارِع رُءُوس الْكفْر من قُرَيْش مصرعا مصرعا، يَقُول: "هَذَا مصرع فلَان ومصرع فلَان فَمَا عَدَا وَاحِد مِنْهُم مضجعه". وَفِي ابْن عبد الْبر مَكَان مضجعه "مصرعه". وَفِي ص ١١٩ "وعامر بن فهَيْرَة ... من مولدِي الْأسد" وَفِي ابْن عبد الْبر: "من مولدِي الأزد". وَفِي ص ١٣٣ "وَمن بني مرضخة وَعَمْرو ابْني غنم بن أُميَّة" وصحتها فِي ابْن عبد الْبر: "وَمن بني مرضخة وَهُوَ عَمْرو بن غنم بن أُميَّة". وَفِي ص ١٥٦ "أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَلا يخرجُوا إِلَيْهِم "إِلَى الْمُشْركين" وَأَن يتحصنوا بِالْمَدِينَةِ فَإِن قدمُوا مِنْهَا قَاتلهم على أَفْوَاه الْأَزِقَّة" وَصِحَّة الْعبارَة فِي ابْن عبد الْبر: "أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ على أَصْحَابه أَلا يخرجُوا إِلَيْهِم وَأَن يتحصنوا بِالْمَدِينَةِ فَإِن قربوا مِنْهَا قاتلوهم على أَفْوَاه الْأَزِقَّة". وَفِي ص ١٥٨ "وَكَانَ فِي الْمُشْركين يَوْمئِذٍ خَمْسُونَ فَارِسًا "وصحتها فِي ابْن عبد الْبر "وَكَانَ فِي الْمُسلمين يَوْمئِذٍ خَمْسُونَ فَارِسًا" وَفِي ص ١٦١ "وَكَانَ قد قتل أَصْحَاب اللِّوَاء من الْمُشْركين حَتَّى سقط فَرَفَعته عمْرَة بنت عَلْقَمَة" وَعبارَة ابْن عبد الْبر: "وَقتل صَاحب اللِّوَاء من الْمُشْركين فَسقط لواؤهم فَرَفَعته عمْرَة بنت عَلْقَمَة" وَبِذَلِك تستقيم الْعبارَة والسياق. وَفِي ص ١٦٥ "وجدوا الأصيرم وَبِه رَمق يسير فَقَالَ بَعضهم لبَعض: وَالله إِن هَذَا الأصيرم فَأَجَابَهُ لقد تَرَكْنَاهُ وَإنَّهُ لمنكر لهَذَا الْأَمر" وَفِي ابْن عبد الْبر بَدَلا من "فَأَجَابَهُ" "مَا جَاءَ بِهِ" وَبِذَلِك يَسْتَقِيم الْكَلَام. وَفِي ص ٢٠٤ "وَذَلِكَ لشر وَقع لبني جَهْجَاه بن مَسْعُود الْغِفَارِيّ أجِير عمر بن الْخطاب وَبَين سِنَان بْن وبر الْجُهَنِيّ" وَصِحَّة الْعبارَة فِي ابْن عبد الْبر "وَذَلِكَ لشر وَقع بَين جَهْجَاه ... ". وعَلى هَذَا النَّحْو تصلح سيرة ابْن عبد الْبر بعض عِبَارَات النُّسْخَة المنشورة من سيرة ابْن حزم فتكمل نواقصها مَا دَخلهَا من فَسَاد التَّصْحِيف والتحريف.
وَلَعَلَّ أهم من خلفوا ابْن عبد الْبر إِفَادَة من سيرته ابْن سيد النَّاس المتوفي سنة ٧٣٤ لِلْهِجْرَةِ، فقد جعلهَا نصب عَيْنَيْهِ فِي سيرته النَّبَوِيَّة المطولة الَّتِي سَمَّاهَا "عُيُون الْأَثر فِي فنون الْمَغَازِي وَالشَّمَائِل وَالسير" وَهِي مطبوعة فِي مجلدين بِالْقَاهِرَةِ. وَفِيمَا ينْقل فقرا وفصولا كَثِيرَة
1 / 17
عَن ابْن عبد الْبر مُصَرحًا باسمه غَالِبا، وَقد رَاجعه كثيرا فِي أَسمَاء الْأَعْلَام وَفِي جَوَانِب مُخْتَلفَة من مَادَّة سيرته وآرائه، وَهُوَ دَائِما يُنَوّه بِهِ، حَتَّى إِذا أنهى كِتَابه وَأخذ فِي ذكر أَسَانِيد الْكتب الَّتِي استقي مِنْهَا سيرته أَو كِتَابه قَالَ: "مَا كَانَ فِيهِ عَن أبي عمر فَمن كتاب الدُّرَر فِي اخْتِصَار الْمَغَازِي وَالسير وَهُوَ مِمَّا رويته عَن وَالِدي ﵀ عَن شَيْخه أبي الْحُسَيْن مُحَمَّد بن أَحْمد بن السراج، عَن خَاله أبي بكر بن خير، عَن أبي الْحجَّاج الشنتمري، عَن أبي على الغساني، عَنهُ". وَمعنى ذَلِك أَن نقُوله عَن سيرة ابْن عبد الْبر مَأْخُوذَة عَن نُسْخَة منسوبة مُسندَة تناقل رِوَايَتهَا عَن مؤلفها شُيُوخ ثِقَات، مِمَّا يرفع من قيمتهَا وَمن دَرَجَة توثيقها، ونظن ظنا أَن نسختنا الَّتِي نعنى بنشرها قد أخذت عَن تِلْكَ النُّسْخَة الَّتِي تحولت من الأندلس إِلَى مصر مَعَ وَالِد ابْن سيد النَّاس: مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله الإشبيلي نزيل الْقَاهِرَة. وَقد يكون ابْنه كتب مِنْهَا نُسْخَة لنَفسِهِ ذاعت فِي النَّاس، أَو لَعَلَّ نُسْخَة أَبِيه هِيَ الَّتِي ذاعت عَن طَرِيق تلاميذه المصريين. وَإِنَّمَا يدفعنا إِلَى هَذَا الظَّن أَن نُصُوص نسختنا تتطابق مَعَ نُصُوص النقول الَّتِي اقتبسها ابْن سيد النَّاس من الْكتاب، حَتَّى فِيمَا يَبْدُو فِيهِ الْغَلَط أَو التَّصْحِيف، فَمن ذَلِك مَا جَاءَ فِي خبر دُخُول بني هَاشم وَبني الْمطلب فِي الشّعب ومنابذة قُرَيْش لَهُم إِذْ وَردت هَذِه الْعبارَة: "ليسلموا رَسُول اللَّه ﷺ برمتِهِ إِلَى قُرَيْش" فِي نسختنا وَكَذَلِكَ فِي ابْن سيد النَّاس ١/ ١٢٧ والرمة: الْحَبل وَيُرَاد بهَا هُنَا الْعَهْد، وَيُمكن أَن تكون مصحفة عَن لَفْظَة "بِذِمَّتِهِ". وَفِي نفس الصفحة فِي ابْن سيد النَّاس وَفِي نسختنا قد آن لكم أَن ترجعوا عَمَّا أحدثتم علينا وعَلى أَنفسكُم". وصححت كلمة أحدثتم فِي هَامِش نسختنا بِكَلِمَة "أَخَذْتُم" وَهِي أدق مِنْهَا فِي السِّيَاق وكأنما حدث فِي الْكَلِمَة تَصْحِيف.
وَقد كثرت نقُول ابْن سيد النَّاس عَن سيرة ابْن عبد الْبر كَثْرَة مفرطة، وَهِي تلقانا مُنْذُ مفتتحها وَحَدِيثه عَن خبر مبعث الرَّسُول ﷺ، إِذْ يلتقي بِهِ فِي كثير من الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة الَّتِي سَاقهَا فِي خبر المبعث "قَارن بِابْن سيد النَّاس فِي ١/ ٨٠ وَفِي مَوَاضِع مُتَفَرِّقَة" وَأَيْضًا فِي كثير من الْأَحَادِيث المنثورة فِي ثنايا الْكتاب. وَلَا نصل إِلَى حَدِيث ابْن عبد الْبر عَن المجاهرين بالظلم لرَسُول الله وَلكُل من آمن بِهِ حَتَّى نجد ابْن سيد النَّاس ينْقل عَنهُ هَذَا الحَدِيث فِي ١/ ١١٠ مُصَرحًا باسمه، كَمَا ينْقل عَنهُ فِي ١/ ١١٣ الْفَقْرَة الَّتِي خصها بالمستهزئين بالرسول. وَلَا يلبث ابْن عبد الْبر أَن يعْقد بَابا يذكر فِيهِ الْهِجْرَة إِلَى أَرض الْحَبَشَة، ويتابعه
1 / 18
ابْن سيد النَّاس فِي العنوان "انْظُر ١/ ١١٥" رَاوِيا الحَدِيث الَّذِي سَاقه فِي مستهله وَكَثِيرًا من مَادَّة الْبَاب. ويعقد ابْن عبد الْبر عقب ذَلِك: "بَاب ذكر دُخُول بني هَاشم بْن عَبْد منَاف وَبني الْمطلب بْن عَبْد منَاف فِي الشّعب وَمَا لقوا من سَائِر قُرَيْش فِي ذَلِك" وينقله عَنهُ ابْن سيد النَّاس فِي ١/ ١٢٧ بحذافيره. ويتلوه بفصل عَن إِسْلَام الْجِنّ وَمَا جَاءَ فِيهِ من أَحَادِيث مُسندَة إِلَى ابْن مَسْعُود، وتتحول مَادَّة الْفَصْل كُله إِلَى سيرة ابْن سيد النَّاس فِي ١/ ١٣٦.
ويتحدث عَن عرض الرَّسُول الإسلامَ على قبائل الْعَرَب وَمَا كَانَ من اجْتِمَاع الْعقبَة الأولى وَالثَّانيَِة وَالثَّالِثَة. ويمزج ابْن سيد النَّاس بَين مَادَّة كتاب ابْن عبد الْبر وَغَيره من كتب السِّيرَة. وَمَا يلبث أَن ينْقل عَنهُ فِي ١/ ١٧٤ الْفَقْرَة الْخَاصَّة بِهِجْرَة عمر بن الْخطاب إِلَى الْمَدِينَة، كَمَا ينْقل عَنهُ فِي ١/ ١٩٩ مؤاخاة رَسُول اللَّه ﷺ بَين الْمُهَاجِرين بَعضهم وَبَعض قبل الْهِجْرَة وجوانب من مؤاخاته بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار. وَيخرج ابْن عبد الْبر إِلَى الْمَغَازِي فيتابعه غَزْوَة غَزْوَة مُقَارنًا فِي كثير من الْأَحْوَال بَينه وَبَين غَيره من رُوَاة السِّيرَة سَوَاء فِي الْأَخْبَار أَو فِي أَسمَاء الْأَعْلَام. ونراه يقف مثله بعد بعث عَبْد اللَّهِ بْن جحش، فيتحدث فِي ١/ ٢٣٠ عَن صرف الْقبْلَة عَن بَيت الْمُقَدّس إِلَى الْكَعْبَة موردا من كتابي ابْن عبد الْبر: "التَّمْهِيد" والاستذكار" الرِّوَايَات الْمُتَعَلّقَة بالاختلاف فِي الصَّلَاة بِمَكَّة قبل الْهِجْرَة هَل كَانَت إِلَى الْكَعْبَة أَو إِلَى بَيت الْمُقَدّس؟ وَقد نقل عَنهُ الْفُصُول الْخَاصَّة بِمن اسْتشْهد ببدر من الْمُسلمين، وَمن قتل وَأسر من كفار قُرَيْش فِي تِلْكَ الموقعة، مُصَرحًا بنقله عَنهُ "انْظُر ١/ ٢٨٦" وَلَا يلبث أَن يلخص عَنهُ فِي ١/ ٢٩٢ فصلا عقب بِهِ على تِلْكَ الموقعة. وَقد لَا ينْقل عَنهُ، وَلَكِن دَائِما يوازن بَينه وَبَين غَيره من رُوَاة السِّيرَة. ودائما يرجع إِلَى كِتَابه "الِاسْتِيعَاب" فِي موازناته ومراجعاته. وَقد نقل عَنهُ فِي ٢/ ١٣٦ الْفَقْرَة الْخَاصَّة بِفَتْح خَيْبَر عنْوَة ومقاسم أموالها وناقشه مناقشة وَاسِعَة. وبهذه النقول الْكَثِيرَة عَن ابْن عبد الْبر تحولت سيرة ابْن سيد النَّاس فِيهَا إِلَى مَا يشبه نُسْخَة من كتاب الدُّرَر فِي اخْتِصَار الْمَغَازِي وَالسير، للمقابلة على النُّسْخَة الَّتِي ننشرها، وَقد أَصْلحنَا بهَا النَّص فِي غير مَوضِع ورددنا إِلَيْهِ سواقطه وأقمنا مَا أدخلهُ النَّاسِخ عَلَيْهِ من بعض التَّصْحِيف والتحريف.
1 / 19
٤- وصف مخطوطة الْكتاب ومنهجنا فِي تَحْقِيقه
لم يكن بَين أَيْدِينَا من نسخ هَذَا الْكتاب فِي تحقيقنا الأول لَهُ سوى مخطوطة وَاحِدَة مَحْفُوظَة بدار الْكتب المصرية برقم ٥٢٣ تَارِيخ. وَلما كَانَ يعد من ذخائر تراثنا الْعَرَبِيّ النفيسة فقد رَأَيْت تَحْقِيقه مُعْتَمدًا على تِلْكَ المخطوطة، وَهِي تَامَّة وَإِن كَانَ يَبْدُو أَن الورقة الأولى مِنْهَا الَّتِي كَانَت تحمل عنوان الْكتاب فقدت قَدِيما، وَوضع مَكَانهَا ورقة أُخْرَى كتب عَلَيْهَا عنوانه على هَذَا النَّحْو: "كتاب الدُّرَر فِي اخْتِصَار الْمَغَازِي وَالسير لِلْحَافِظِ أبي عمر بن عبد الْبر النمري، رَحمَه الله تَعَالَى، آمين" وَكتب على يسَار العنوان بِخَط مُحَمَّد مرتضى الزبيدِيّ صَاحب تَاج الْعَرُوس فِي شرح جَوَاهِر الْقَامُوس المتوفي سنة ١٢٠٥ لِلْهِجْرَةِ هَذِه الْعبارَة: "افتداه، وعَلى وقفيته أبقاه، العَبْد لله، مُحَمَّد مرتضى الْحُسَيْنِي، عُفيَ عَنهُ، حامدا الله ومصليا وَمُسلمًا على نبيه ومستغفرا". وَكتب أَيْضا على صفحة العنوان: "محْضر من جَامع محرم أَفَنْدِي الشهير بالكردي، وأضيف فِي ٥ أكتوبر سنة ١٨٨١".
وواضح من ذَلِك أَن المخطوطة نقلت إِلَى دَار الْكتب المصرية فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور من جَامع الْكرْدِي، وَكَانَ يعرف قبلا بِالْمَدْرَسَةِ المحمودية الَّتِي أَنْشَأَهَا الْأُسْتَاذ مَحْمُود فِي شَارِع قَصَبَة رضوَان بِالْقربِ من بَاب زويلة. وَلَا نصل إِلَى الورقة السَّادِسَة من الْكتاب حَتَّى نجد النَّاسِخ يخطيء فِي لقب أبي عمر بن عبد الْبر فيكتبه أَبَا عَمْرو بِالْوَاو. ونجد فِي الْهَامِش استدراكا عَلَيْهِ هَذَا نَصه: "هَذِه الكراريس من كتاب السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِلْحَافِظِ أبي عمر بن عبد الْبر، وَلَكِن ناسخها يَجعله أَبَا عَمْرو بِالْوَاو، وَهُوَ غلط، فليصلح". وَكتب الزبيدِيّ، الَّذِي تملك النُّسْخَة كَمَا مر بِنَا آنِفا، بِجَانِب هَذَا الِاسْتِدْرَاك: "هَذَا خطّ الْحَافِظ أبي الْخَيْر السخاوي، ﵀. وَكتبه مُحَمَّد مرتضى". وَأَبُو الْخَيْر السخاوي هُوَ شمس الدَّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن السخاوي صَاحب كتاب الضَّوْء اللامع فِي أَعْيَان الْقرن التَّاسِع الْمُتَوفَّى سنة ٩٠٢ لِلْهِجْرَةِ. وكل هَذِه شَهَادَات من شَأْنهَا أَن توثق المخطوطة، فقد قَرَأَهَا السخاوي وتملكها الزبيدِيّ.
وَقد كتبت المخطوطة بقلم مُعْتَاد، وَهِي بخطين مُخْتَلفين، أَحدهمَا خطّ نسخ وَاضح
1 / 20
ضبطت فِيهِ بعض الْكَلِمَات بالشكل، وكتبت عناوين الْفُصُول والأبواب بالقلم الثُّلُث. وَالْآخر خطّ مُعْتَاد قَلِيل الإعجام خَال من الضَّبْط. والعناوين فِيهِ بِخَط أكبر مِمَّا يَليهَا. وعَلى الهوامش مراجعات واستدراكات، مِمَّا يدل على أَن ناسخها رَاجعهَا على الأَصْل الَّذِي نسخهَا مِنْهُ، وَقد صرح بذلك فِي نهايتها. ويبدو أَنَّهَا كتبت فِي الْقرن الثَّامِن الهجري، وَمر بِنَا استظهارنا لِأَن تكون نُسْخَة فرعية للْأُم الَّتِي نقل عَنْهَا ابْن سيد النَّاس نقُوله فِي كِتَابه "عُيُون الْأَثر".
وتتردد فِي المخطوطة كلمة "قلت" ويليها تعقيبات وتعليقات على كَلَام ابْن عبد الْبر، وَكَثِيرًا مَا يستضىء صَاحبهَا بِبَعْض مَا ذكره السُّهيْلي الْمُتَوفَّى سنة ٥٨١ لِلْهِجْرَةِ فِي كِتَابه "الرَّوْض الْأنف" فِي تَفْسِير مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ حَدِيث السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِابْنِ هِشَام مِمَّا يقطع بِأَنَّهُ عَالم مُتَأَخّر. وَقد أحَال كثيرا على كتاب الِاسْتِيعَاب فِي معرفَة الْأَصْحَاب لِابْنِ عبد الْبر، وأحال أَيْضا على كِتَابيه "التَّمْهِيد" و"الاستذكار" وَقد يضع مَكَان كلمة "قلت" كلمة "فَائِدَة" أَو "هُنَا لَطِيفَة". وَفِي مَوَاضِع قلية جدا ذكر التَّعْلِيق بِدُونِ إِشَارَة تسبقه تدل على أَوله، غير أَن تَعْلِيقه كَانَ دَائِما يحمل الدّلَالَة على أَنه لَيْسَ من كَلَام ابْن عبد الْبر، بِمَا يتَضَمَّن من معارضته لَهُ، وَبِمَا ينهيه بِهِ من عَلَامَات نهايات الاستدراكات كَقَوْلِه: "يرجع الْكَلَام" أَو "عَاد الْكَلَام" أَو "وَالله أعلم" أَو "وَالله الْمُوفق" أَو "بِاللَّه التَّوْفِيق أَو "وَالْحَمْد لله" أَو "وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين". وَإِحْدَى اثْنَتَيْنِ: إِمَّا أَن تكون هَذِه التعليقات كتبت على هَامِش الأَصْل الَّذِي نقلت عَنهُ هَذِه المخطوطة وأدخلها فِيهَا ناسخها، أَو يكون النَّاسِخ الَّذِي كتبهَا هُوَ نفس الْعَالم الَّذِي أضَاف هَذِه التعقيبات والمراجعات. وَقد أخرجتها جَمِيعًا من الْكتاب ووضعتها فِي هوامشه مُشِيرا إِلَيْهَا دَائِما بنجوم، حَتَّى تتَمَيَّز مِمَّا فِي الهوامش من تعليقات لي مرقمة. وَهِي تدل دلَالَة بَيِّنَة على أَن من كتبهَا مُحدث بَصِير بكتب السِّيرَة النَّبَوِيَّة وَكتب الحَدِيث الْمُخْتَلفَة، وَأَنه فَقِيه سني، عَالم باختلافات الْفُقَهَاء وطرقهم فِي الاستنباط، وَأَنه يتقن الْعلم باللغة والنحو واختلافات النُّحَاة: سِيبَوَيْهٍ وَغَيره فِي بعض الْمسَائِل، كَمَا يتقن عُلُوم الْبَيَان من الْمجَاز وَغير الْمجَاز. وَإِنَّمَا أخرجت مراجعاته وتعليقاته من الْكتاب حَتَّى أُعِيد إِلَيْهِ نسقه وَصورته الْأَصْلِيَّة.
أما الْمنْهَج الَّذِي ترسمته فِي تَحْقِيق الْكتاب فقد أخذت نَفسِي فِيهِ، بِمُقَابلَة نصوصه على الأَصْل الَّذِي استمد مِنْهُ ابْن عبد الْبر فِي الْمَغَازِي، وَهُوَ سيرة ابْن إِسْحَاق بِرِوَايَة ابْن هِشَام
1 / 21
الْمَشْهُورَة، وأفدت كثيرا من شرحها الْمُسَمّى باسم الرَّوْض الْأنف لمؤلفه السُّهيْلي. وقابلت الْأَحَادِيث المبثوثة فِي الْكتاب على صَحِيح البُخَارِيّ ومسند أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وصحيح مُسلم وَسنَن أبي دَاوُد ومسند ابْن حَنْبَل. وعنيت بِمُقَابلَة نُصُوص الْكتاب عَامَّة على الفرعين اللَّذين استمدا مِنْهُ، وأقصد جَوَامِع السِّيرَة لِابْنِ حزم، وعيون الْأَثر فِي الْمَغَازِي وَالشَّمَائِل وَالسير لِابْنِ سيد النَّاس. وَقد أوضحت -فِيمَا أسلفت- العلاقة بَينهمَا وَبَينه وَكَيف أَنَّهُمَا يكادان يشبهان نسختين مِنْهُ: نُسْخَة كَامِلَة هِيَ نُسْخَة ابْن حزم وَقد دَخلهَا شَيْء من التَّصَرُّف، ونسخة نَاقِصَة هِيَ نُسْخَة ابْن سيد النَّاس، وَقد احتفظت بالنصوص الَّتِي نقلتها عَن الْكتاب على وَجههَا الدَّقِيق وأدائها الصَّحِيح. وَقد قابلت أَعْلَام الْكتاب وَصِحَّة أنسابها وضبطها على كتاب الْمُؤلف "الِاسْتِيعَاب فِي معرفَة الْأَصْحَاب" وأفدت مِنْهُ فَوَائِد جمة. وكل هَذِه المقابلات أثبتها فِي الهوامش. وَأثبت مَعهَا بعض الشُّرُوح اللُّغَوِيَّة وَبَعض التوضيحات. وَذكرت مَعَ كل فصل وَبَاب وفقرة مهمة المراجع الَّتِي بسطته أَو أجملته من أُمَّهَات كتب السِّيرَة والتاريخ وَالْأَخْبَار والْحَدِيث مثل مغازي الْوَاقِدِيّ وطبقات ابْن سعد وأنساب الْأَشْرَاف للبلاذري وتاريخ الطَّبَرِيّ وصحيح البُخَارِيّ والمحبر لِابْنِ حبيب والبداية وَالنِّهَايَة لِابْنِ كثير وَنِهَايَة الأرب للنويري والسيرة الحلبية وَغير ذَلِك مِمَّا يرَاهُ القاريء متناثرا فِي الهوامش.
وَلم أَتَّخِذ فِي الْكتاب رموزا من شَأْنهَا أَن تعقده. وكل مَا اتخذته فِيهِ من رموز هُوَ هَذِه العلامات الَّتِي جرى بهَا الِاصْطِلَاح فِي النشر وَالتَّحْقِيق:
و: وَجه الورقة من مخطوطة دَار الْكتب المصرية وتتبع رقمها.
ظ: ظهر الورقة من المخطوطة وتتبع رقمها أَيْضا.
: تدل هَذِه الْعَلامَة على بَدْء الصفحة التالية فِي المخطوطة وتوضع أَمَام رقمها.
" ": وَضعنَا هذَيْن القوسين دَائِما حول الْآيَات القرآنية تمييزا لَهَا.
[] واتخذنا هَاتين الحاصرتين لما سقط من المخطوطة وجلبناه من أُصُولهَا أَو فروعها أَو من مخطوطة الرِّبَاط.
وَالله -وَحده- أسأله أَن يوفقني بمنه وَكَرمه إِلَى الِاقْتِدَاء بسيرة خير خلقه وَخَاتم رسله. إِنَّه ولي الطول وَالْفضل، وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل.
شوقي ضيف
1 / 22