ولا يكفي الانعتاق من نير الدين والحكم ليستحق الرجل الأسمى هذا اللقب، بل عليه التخلص من نير المرأة أيضا. إن دليلة المحتالة تقلق بال نيتشه؛ ولهذا فهو يحتقر الزواج ويفضل أن تعامل المرأة على الطريقة الشرقية - كذا يقول - فلا يطلب من هذا الجنس الخائن الذي يخفي براثنه تحت قفاز مخملي سوى اللذة والنسل الجميل. وأبغض النساء إليه المترجلات اللائي يطمعن بالتصدر في المجالس، ويدعين البطولة كمدام تيل، ومدام رولاند، وجورج ساند.
وهو لا يحترم من المفكرين والكتاب إلا من عرف أن يصور حياة عصره، مثل ميكافيلي وستاندال ودستوبوفسكي. أما الفلاسفة وعلماء النظريات فلا مقام لهم عنده؛ فينسب الخمول لدارون والرياء إلى «كانت» والتسميم إلى «سبينوزا».
ويعجب بعصر الوحشية والقوة، ومن هذا الإعجاب يستقي كرهه للعصر الحاضر، عصر الكسل والرفاهة، وعصر التقهقر الأدبي والفسيولوجي الذي يسمح للضعفاء بالحياة والتوالد، مما يؤدي إلى إضعاف النسل.
أما ناموس القوة الذي بشر به فقد قدمه إلى الناس في كتاب جعله إنجيل أو توراة الجبابرة: هكذا تكلم زرادشت.
فهذا الكتاب الغريب الذي هو شبه توراة للجبابرة استعار فيه الإله زرادشت ليلقننا شرعة الأقوياء، ويقربنا من حقيقة الإنسان المتفوق على الإنسانية. ولا أحاول إلا جولة صغيرة في هذا الكتاب الضخم المتشعب المسالك، الغامض الأبحاث، الكثير الرموز؛ لتلخيص ما يرمي إليه من تحقيق هذه الفكرة الهائلة السامية، التي ترفع الأنانية إلى درجة التقديس، فيبز فيها سترنر ومن كتب قبل سترنر هذا في الموضوع هادما من أجلهم المبادئ الأدبية، محطما ألواح الوصايا التي تدير نظام الاجتماع، جاعلا الخير غير الخير، والشر غير الشر، مبيحا السرقة، مشجعا على القسوة، منكرا صحة كل شيء، معترفا بجواز كل شيء ما خلا الضعف ، مهما يكن في هذا الضعف من بوادر الصلاح أو الفساد.
على أنه إذا جردنا زرادشت من حلته الشرقية، وأخرجناه من جمال الإطار الذي يخلعه عليه البحر والجبل، وذاك الخيال الشعري البعيد المدى، لم نجد في هذه التعاليم ما يبدو للوهلة الأولى من جدتها وغرابتها، بل ظهرت لنا في حلة مستعارة، وسمعنا من خلالها صدى أصوات فلاسفة آخرين، من أفلاطون الذي كان يريد في جمهوريته طبقة من الأشراف أبطال الحروب، إلى ميكافيلي الذي يرى في الديانة الوثنية تمجيدا للعظمة والهيبة والقوة، إلى دي ميستر الذي ينادي بالدم وضرورة الحروب للإتيان بعظيم الأعمال. وقديما قال الشاعر العربي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
وهذه القسوة الفائقة التي يبشر بها نيتشه، وهذه الثورة على العادات والتقاليد والآداب الاجتماعية التي ينادي بها نجدها تحت أقلام الكثيرين من الكتاب والشعراء، كشلر، وبيرون، وبلزاك، وستاندال، ولكن أحق الناس بأن يكون مصدر وحيه هو شوبنهور. غير أن شوبنهور يتفوق عليه عند الاستنتاج؛ إذ يلجأ إلى الزهد ملقيا نفسه في أحضان النرفانا نظير بوذا، وما النرفانا سوى الغيبوبة عن هذا العالم في سبيل الخلاص الأبدي؟
إن ما يمتاز به كتاب نيتشه هو جمعه بين النقائض؛ ليجذب إليه الناس ويبعدهم عنه في آن واحد، يجذبهم إليه بما فيه من كراهة الكذب والنفاق، ومحاربة ضعفاء العزيمة والإرادة، والإلحاح في استعمال الشدة والقسوة نحو ذاتنا ونحو سوانا؛ فهو يتطلب جيلا قويا ونسلا جميلا، ولا يرى للحياة معنى إن لم يتفجر من صخرتها العمل العظيم والإبداع، فيخال لنا في حالة الوهن والاضطراب التي تتخبط فيها الإنسانية اليوم أن نيتشه يحمل في نفسه آلام الحاضر كما يحمل آمال المستقبل. وهذا ما حببه إلى الناشئة الطماحة، وجعله عظيما في عيونها. ويدفعنا عنه بما يحاول من فصل الإنسان عن الإنسان، وتقديسه الكبرياء والشر واحتقار الآخرين وحب الذات في أقصى حدوده.
صفحة غير معروفة