وواصلت عملي في مراجعة الصحف وأنا مشتت الفكر، لا يتركز انتباهي في شيء مما بين يدي. ومضت نصف ساعة أو نحوها، وإذا بالباب يفتح ويدخل مدير المكتب مهرولا. أقبل نحو التليفون وهو يسألني: هل تعرف هذا المستشار؟
فأجبت نفيا. وأدار قرص التليفون: آلو، رياسة مجلس الوزراء؟ أنا علي عباس مدير مكتب وزير الأوقاف، من فضلك هل يوجد في الرياسة مستشار اسمه إسماعيل الباجوري؟ - ... - سعادتك متأكد يا فندم! عندنا شخص بهذا الاسم وهذه الصفة، كما هو واضح في بطاقته. - ... - آسف على إزعاجكم، وسأفعل ما أشرتم به.
ووضع السماعة دون أن ينظر إلى وجهي الضائع، ثم أدار القرص ثانية: آلو، سعادتك المأمور؟ - ... - علي عباس مدير مكتب وزير الأوقاف، عندنا شخص ينتحل شخصية مستشار بالرياسة، يتحدث حديثا غريبا ويطلب مقابلة معالي الوزير، وبالنظر للظروف الدقيقة التي تمر بها البلاد؛ فأخشى أن يكون من الإرهابيين. - ... - الواقع أن مظهره مخالف لهذا النوع من الشباب، ولكني أخاف المفاجآت. - ... - في انتظارك يا فندم، أرجو السرعة.
وأعاد السماعة وغادر الحجرة وأنا في حال، ووضح الأمر في القسم. لم يكن الرجل إرهابيا، ولكن كان به لطف. واستدعيت أسرته، واتخذت الإجراءات المتبعة، وقد سمعته وهو يقول للمأمور في كبرياء غاضب: الحق علي، ما كان أسهل أن أنعم براحة البال، والحق علي!
صورة قديمة
فكرة ومضت فجأة، فوعدته بالخلاص من حيرته. ومضت في رأسه عندما مرت عيناه بالصورة المدرسية القديمة. كان يعاني حيرة البحث عن موضوع جديد للمجلة، كما ينبغي لصحفي مطالب بجديد كل يوم. وفجأة ومضت فكرة، وكانت الصورة معلقة بمكانها من حجرة الجلوس منذ أكثر من ثلاثين عاما، لا تنطق ولا توحي بشيء ولا تكاد ترى، ولكن بدا أنه آن لها أن تتكلم. ركز انتباهه بحماس في الصورة التي كاد يمحوها طول البقاء. صورة السنة النهائية بالقسم الأدبي من الجيزة الثانوية عام 1928م، ما الرأي في دراسة صحفية عن أصحاب هذه الوجوه الفتية؟ المدرسة والحياة، 1928 و1960م؟ فكرة طيبة من ناحية المبدأ، فهل يستطيع أن يظفر بحقائق تصلح أساسا لبحث طريف؟! كم من أعوام مضت دون أن يلقي نظرة على هذه الصورة! وكم من معالم فيها انطوت إلى غير رجعة، كهذه الطرابيش، وهؤلاء المدرسين الإنجليز والفرنسيين! وكانت مجرد نظرة إلى أي وجه كافية غالبا لتذكيره بصاحبه، وإن غاب عنه اسمه، وإن جهل كل الجهل مصيره. ولا أحد بينهم تربطه به اليوم علاقة، حتى ولا هذا الفتى المثير الذي جاوره في المسكن زمنا طويلا، وتفحص الوجوه مبتدئا بالصف الأعلى، فمر بوجهين لا معنى لهما، ثم وقف عند فتى كان من أبطال كرة القدم، ولقي حتفه في مباراة بين الجيزة ومدرسة أخرى، حادث لا ينسى، وتراءى ضحيته في الصورة براق العينين معتدا بنفسه منحرف جانب الفم في شبه ابتسامة، وهو اليوم عظام. وواصل مسيره من وجه إلى وجه حتى وقف عند وجه نحيل مستطيل، ذكره بموقف صاحبه فوق سلم سكرتير المدرسة، وهو يخطب خطبة ملتهبة داعيا الطلبة إلى الإضراب احتجاجا على تصريح 28 فبراير! وإلى جانبه مباشرة برز وجه وجيه يحمل طابع الأناقة والسلالة الممتازة، فورد اسم الأسرة على ذاكرته بسرعة - الماوردي - فسجله في مذكرته واثقا من سهولة الاهتداء إليه، فضلا عن أنه كان نجما لامعا في الحياة السياسية منذ عشرة أعوام، فهذا أول عنصر هام في مشروع بحثه. وجرت العينان على الوجوه واحدا بعد آخر، فلم ينطق وجه أو يبين حتى بلغتا وجها ليس من السهل نسيانه، فهو رمز التفوق المدرسي بكل سحره، أول الفصل، أول كل فصل ، وأول المدرسة، الأورفلي وبفضل التفوق وغرابة الاسم بقي في الذاكرة. وفي كلية الحقوق كان له شأن، ثم عين في النيابة العمومية أيام كان التعيين فيها حدثا هاما، سيسهل عليه الاهتداء إليه بالرجوع إلى وزارة العدل، وهو ثاني عنصر هام في دراسته، الأورفلي بعد الماوردي. وتحداه وجه جديد بذكرى دامية، مشاجرة نشبت بينه وبين صاحبه في حوش المدرسة، وإن لم يذكر من أسبابها شيئا على الإطلاق. وتتابعت الوجوه صامتة صمت الحجر حتى جاء الوجه المثير، الجار القديم، حامد زهران مدير شركة «الهرم الدرج». ابتسم ابتسامة باردة. هذا هو فتى العصر، ما زال يذكر بوضوح كيف ترك الجيزة الثانوية ساقط بكالوريا، وكيف التحق بخدمة وزارة الحربية بالكفاءة، ولم تنقطع علاقته به إلا منذ عشرة أعوام حين ترك هو عطفة أبو خوذة، بعد أن فتح الله عليه في الصحافة. وترامت إليه أخبار عن استقالته من الحكومة؛ ليشغل وظيفة سكرتير لمدير شركة الهرم المدرج، ثم علم آخر الأمر بتوليه منصب المدير بمرتب 500 ج.م في الشهر. يا له من معجزة، سواء في طفرته الجنونية أو في تفاهته التي لا يشك هو فيها! على أي حال سيكون عنصرا هاما وذا دلالة في دراسته. دراسة طريفة كما يأمل، وستعتمد على تحليله واستنباطاته أكثر من اعتمادها على أحاديث أبطالها المجهولين؛ إذ إن الطريف حقا ليس أشخاصهم، ولكن دلالتهم الاجتماعية. ومهما يكن من أمر فليؤجل تقرير الصورة النهائية للبحث حتى يجمع مواده.
وبدأ بطلب مقابلة عباس الماوردي في عزبته بقليوب، بعد أن علم بإقامته فيها عن طريق دائرة الماوردي بميدان الأزهار. وفي الموعد المحدد كان يقطع الممشى المحفوف بأصص الورد على الجانبين إلى السلاملك. كان القصر تحفة من طابقين وسط حديقة، مساحتها فدانان اكتظ أديمها بأشجار المانجو والبرتقال والليمون وأعراش العنب ومربعات ومثلثات ودوائر لا عد لها من الأزهار والخضرة والجداول. وهو قائم كالمارد وسط فضاء من الحقول يترامى حتى الأفق، يغشاه الصمت والهدوء والامتثال، وتتراءى عن بعد فوق سطحه أجساد منحنية، بدت ضائعة في النبات والفضاء. وأقبل عليه عباس الماوردي يرفل في عباءة فضفاضة، بوجه ممتلئ مورد وشعر لامع منسرح فوق رأس مستدير كبير، وفي طوله وعرضه امتداد هائل جعله أشبه بتمثال متلفع بستار قبل إزاحته. حدجه بنظرة باسمة، لم تخل من دهشة حذرة واستطلاع، وقال مرحبا: أهلا وسهلا بالأستاذ حسين منصور.
وتصافحا ثم جلسا وهو يقول: إني أتابع نشاطك الصحفي بإعجاب، وأذكر به زمالتنا المدرسية وإن كنا لم نلتق منذ افتراقنا في الجيزة الثانوية.
فقال حسين باسما: تقابلنا مرة خطفا في البرلمان عام 1950 أو 1951م.
فتساءل بحاجبيه «حقا؟» واستسلما مليا لذكريات المدرسة، ثم فاتحه بمقصده من الزيارة.
صفحة غير معروفة