وتوالى التفتيش وتتابع الإملاء: منديل، علبة سجائر هوليود، سلسلة مفاتيح، ساعة يد.
وكان آخر ما عثر عليه صفحة مطوية من كراسة، فبسطها فوجدها رسالة لم تغلف بمظروف بعد، فأمل أن يصادف فيها ما يمكن أن يستدل به على شخصية الرجل. نظر أول ما نظر إلى الإمضاء، ولكنها لم تزد عن «أخوك عبد الله»، فعاد إلى رأس الصفحة، ولكن الرسالة كانت موجهة إلى «أخي العزيز أدامه الله». فاستاء من هذه المعاندة ولم يجد بدا من قراءتها!
أخي العزيز أدامه الله
اليوم تحقق أكبر أمل لي في الحياة.
اضطر إلى التوقف رافعا عينيه إلى تاريخ الرسالة، وكان تاريخ اليوم نفسه 20 فبراير، وامتد بصره فوق الأسطر إلى الوجه الباهت المشوب بزرقة مخيفة، المغلق كسر، الجامد كتمثال، ذلك الذي تحقق أكبر أمل له في الحياة. وتساءل الطبيب: عثرت على شيء؟
فانتبه إلى نفسه وابتسم ابتسامة استهانة ليدل على اعتياده أي شيء، وقال: اليوم تحقق أكبر أمل لي في الحياة، بذلك بدأت الرسالة!
وعاد إلى القراءة متجنبا النظر إلى عيني الطبيب: «فقد انزاحت عن صدري الأعباء المريرة، انزاحت جميعا والحمد لله، أمينة وبهية وزينب في بيوتهن، وها هو علي يتوظف، وكلما ذكرت الماضي بمتاعبه وكدحه وقلقه وشقائه، أحمد الله المنان، وهذا هو النصر المبين.»
واسترق النظر مرة أخرى إلى الإنسان الراحل، الذي لا يدري أحد مقره، الذي يثير الدهشة بصمته وانعزاله وارتداده العميق إلى المجهول. المتاعب والقلق والشقاء والأمل الكبير والنصر المبين! «وبعد تفكير طويل قر رأيي على ترك الخدمة.» فعلا. «فهيهات أن تتحسن صحتي طالما بقيت في المدينة، وحسبت الحسبة، فوجدتني أخدم في الحكومة بثلاثة جنيهات هي الفرق بين المرتب والمعاش، لذلك قررت أن أطلب إحالتي على المعاش، وقريبا أعود إلى البلدة إن شاء الله، وسوف أنضم إلى مجلسك الظريف عند عبد التواب شيخ الخفر، أما الآن فكل شيء بخير، وليس في الإمكان خير مما كان.»
وطوى الضابط الرسالة وهو يقول: إنه موظف كما يفهم من خطابه، ولكن ليس به ما يمكن الاستدلال على هويته!
فقال الطبيب: سنتخذ الإجراءات المألوفة، وغالبا ما يجيء أهله في الوقت المناسب، فيتسلمون الجثة من المشرحة!
صفحة غير معروفة