فتساءلت: ماذا حدث له؟ - شارع جديد، ممهد ونظيف، والفيلا والأشجار!
فقالت بدهشة: هو كذلك طول عمره. - لكنني لم أره إلا اليوم!
فرمقته بنظرة فاترة، لكنها ناطقة بأمر انتقاد وتأنيب فتقبلها خاضعا، وتساءل في لهفة: ترى هل في العمر بقية لإصلاح الماضي الفاسد؟ للاعتذار عن كل هفوة، والتكفير عن كل جريمة، وتحويل الأعداء والضحايا إلى أصدقاء؟! وفكر مليا، ثم قال بحماس طفلي: ألا يمكن أن يبدأ الإنسان حياة جديدة، ولو في مثل عمري؟ - أي حياة؟! - جديدة بكل معنى الكلمة، أرجو أن تجيبي بأن هذا ممكن.
فساورها حب استطلاع مشوب بقلق، وقالت: لا أفهم، ماذا تعني؟ - سوف تفهمين.
جديدة بكل معنى الكلمة. وإلا فكيف يحتمل العمر الباقي؟ .. هل ينسى يوم الأربعاء؟ وأغمض عينيه كمن يتذكر أشياء مستعصية. وكانت تتابعه بعينين قلقتين، فما لبثت أن ساءلت نفسها: ترى لم يبتسم هكذا؟
وكان حقا يبتسم، ابتسامة جديدة، لا نفاقا ولا تشفيا ولا استفزازا ولا سخرية ولا مكرا ولا تحريضا ولا ولا.
ابتسامة صافية.
حادثة
كان يتكلم في تليفون الدكان بصوت مرتفع، ليسمع صوته رغم ضوضاء شارع الجيش الصاخبة. وجعل يميل بنصفه الأعلى داخل الدكان ليبتعد ما أمكن عن الضوضاء، ثم ختم حديثه بقوله «انتظرني، سأحضر فورا»، وأعاد السماعة إلى موضعها وتناول علبة سجائر هوليود من فوق الطاولة، ونقد البائع نقوده (ثمن العلبة والمكالمة) واستدار فوق الطوار متجها نحو الطريق. كان في الستين أو نحوها، طويل القامة نحيلها، كروي الجبهة والعينين، مكور الذقن، وأما صلعته فلم يبق فوق مرآتها إلا جذور شعر أبيض مثل منابت شعر ذقنه. وقد أفصح مظهره عن إهمال صريح نتيجة للسن أو الطبع أو نسيان الذات . على ذلك كان يتمتع بحيوية مرحة، وتلتمع عيناه بنشاط وابتهاج، فأشعل سيجارة وأخذ نفسا عميقا، وبدا أنه ينظر إلى الداخل لا إلى الطريق، ثم مال يمنة بمحاذاة صف من اللوريات الواقفة لصق الطوار، حتى وجد منفذا إلى الشارع. ونفض السيجارة وهو يبتسم، ثم مرق من المنفذ ليعبر الشارع إلى ضفته الأخرى، وما كاد يجاوز مقدمة اللوري الأخير حتى شعر باندفاع سيارة فورد نحوه بسرعة فائقة. وقال أحد الشهود فيما بعد إنه كان عليه أن يتراجع بسرعة، وإنه لو فعل ذلك لنجا رغم سرعة السيارة، لكنه لسبب ما - لعله المفاجأة أو سوء التقدير أو القضاء - وثب إلى الأمام وهو يهتف: «يا ساتر يا رب». وجرت الحوادث متلاحقة. ندت عن الرجل صرخة كالعواء، وفي ذات الوقت انطلقت صرخات الفزع من المارة والواقفين على الطوار وفوق إفريز محطة الترام. ورئي الرجل وهو يرتفع في الفضاء أمتارا ثم يهوي فوق الأرض كشيء غير آدمي. وصدر عن فرملة الفورد صوت محشرج متشنج ممزق وهي تزحف على الأرض بعجلات متوقفة جامدة. وهرع نحو الضحية في ثوان عشرات وعشرات كأسراب الحمام، حتى تكون منهم سور غليظ منيع، وانتشر في المنطقة الهرج. ولم ينبض جسم الرجل بحركة واحدة، وكان منكفئا على وجهه، ولا يجرؤ أحد على لمسه، وإحدى رجليه ممدودة إلى آخرها، والأخرى منثنية منحسرة البنطلون عن ساق نحيلة غزيرة الشعر، وقد فقدت فردة حذائها، وتغشاه صمت بخلاف كل شيء حوله كأن الأمر لا يعنيه ألبتة. وألصق سائق الفورد ظهره بالسيارة من باب الحيطة، وراح يخاطب مجموعة من الحفاة أحدقت به على سبيل المراقبة: لا ذنب لي، اندفع هو من أمام اللوري فجأة، وبسرعة، ودون أن ينظر إلى يساره كما يجب.
وإذا لم يجد وجها مستجيبا عاد يقول بلهجة خطابية: لم يكن في الإمكان أن أتجنب صدمه!
صفحة غير معروفة